هل للوع علم؟ وما هو اللوع حتى يكون أو لا يكون له علم؟ هـو بالقطع غير «اللوعة»، وهى شدة الشوق وحرقة القلب. ولكن اللفظ اكتسب فى العامية معنى راسخاً، يشير معناه الدارج إلى خليط من التلاعب والكذب والإيهام والخداع والمخاتلة، حتى صار «اللوع» عنواناً لكل هذه المعانى، ولمن يجيد ممارستها.
والسؤال: هل الأفضل أن نقول ما يعجب ويرضى الناس، ولا بأس من دغدغة مشاعرهم، أم نقول ما يجب أن يقال لتبصير الناس ولو كان مراً؟ تثار هنا الفروق بين الصراحة والكياسة، أو الحصافة من ناحية، وبين المداراة والمخاتلة وكبت الحقيقة من ناحية أخرى، وهل المداراة كياسة أو حصافة؟، لا شك أنها فى بعض الأحيان تعد كذلك، ولكنها تدخل أحياناً فى باب التضليل والخداع.
لا شك أن الخيار فى دنيا السياسة بالغ الصعوبة، ذلك أنه إذا كان الصواب أو المصارحة بالحق لا تعجب ولا ترضى، فإن الناس لا تعطى رضاها وتأييدها ودعمها إلاَّ لمن يرضيها ويساير رغابها وأشواقها وآمالها، وهذه المراضاة متعددة السبل بكافة ألوان الطيف فيما يقال أو لا يقال، وفيما يجوز أو لا يجوز.
يضيق معظم الناس بمن يبصرهم أو يَصْدقهم القول، ويضيقون أكثر بمن ينصح!
هذا الواقع هو طبع الناس فى كل زمان وفى كل الأحوال. فى العلاقات وفى الصداقات وفى القرابات وفى الزمالات وفى المعاملات وفى الصلات، وهو حال السياسة ولغتها التى ترفع شعاراً لا يخطئه الساسة: «قلْ ما يعجب الناس، واصنعْ ما شئت!»
يقول شاعرنا الفذ صلاح جاهين فى إحدى رباعياته الشهيرة:
علم اللوع أضخم كتاب فى الأرض
لكن اللى يغلط فيه يجيبه الأرض
أما الصراحة فأمرها ساهل
لكن لا تجلب مال ولا تصون عرض!
عجبى
يكون مراً ومؤسفاً أن يشيع «اللوع» ويصير أسلوباً، وأن يطغى على قيم الصدق والاستقامة والمصارحة بالصواب والواجب، وتكون الأمم أشد حاجة إلى مقاومة هذه الآفة، آفة اللوع، فى زمن القحط والهبوط والتردى، وما تستوجبه مواجهة ذلك من صدق ومصارحة وتبصير هو أدعى لشحذ الهمم والعزائم، وأصوب لتحمل عبء ومعاناة وشدائد الإصلاح. من المحال أن ينهض إصلاح يشارك فيه الجميع ببذل الكلمات. الكلمات لا تُصْلح بذاتها فساداً، ولا تقيم بذاتها مصنعاً، ولا تشيد بذاتها صرحاً، ولا تزرع بذاتها أرضاً، ولا تنتج بذاتها محصولاً ودخلاً، ولا توجد بذاتها حلولاً تنجع!
قيمة الكلمات ليست قيمة مجردة منفصلة عن الحقائق، وعن الفعل، وإنما هى مستمدة من تعبيرها الصادق عن هذا وتلك!
فى الرائعة الشعرية لشاعرنا الفذ صلاح عبدالصبور «مأساة الحلاج»؛ خرج المتآمرون إلى ساحة بغداد لصلب الحلاج على جذع شجرة. والمشهد فيه الزبانية الموكل إليهم صلبه وقتله صبراً، وفيه التاجر والواعظ والفلاح، وفيه مجموعة يتقدمها أحد الفقراء. يسأله الواعظ هل تعرف من قتله؟، فتجيب المجموعة: نحن القتلة! سئلوا: كيف؟ أبأيديكم؟ قالوا بل بالكلمات. أحببناه فقتلناه. قتلناه بالكلمات. أحببنا كلماته أكثر مما أحببناه ؛ فتركناه يموت لكى تبقى الكلمات. كنا نلقاه بظهر السوق عطاشى فيروينا من ماء الكلمات. جوعى، فيطعمنا من أثمار الحكمة، وينادمنا بكئوس الشوق إلى العرس النورانى. وإذْ سئلوا: أو لم يحزنكم فقده؟ أجابوا: أبكانا أنَّا فارقناه، وفرحنا حين ذكرنا أَنَّا فى كلماته علقناه، ورفعناه فوق الشجرة!
هل بتنا نحن علقى فى أحضان الكلمات. نحيا بالكلمات، ونقتل أيضاً بالكلمات؟ صرنا نهزل ونفارق الوقار بالكلمات، ونبنى الصروح والأوهام بالكلمات، ونحل القضايا بالكلمات، ونصنع وننتج ونعمل ونكد بالكلمات! حلت الكلمة بأمراضها محل الأفعال والأعمال. لم يعد مهماً ماذا نعمل، أو ماذا نصنع، أو ماذا نفعل، وإنما صار المهم ماذا نقول؟
الردة العقلية والحضارية
من يراقب بإمعان ما يجرى بيننا فى بلدنا هذه الأيام، لا يملِك إلاَّ أن يستهول ما صارت إليه أحوالنا من تراجع مخيف دلت عليه أعراض وظواهر مَرضية بدأت تشرئب وتتزايد من سنوات.. تحول الحوار إلى شجار، وحلت الكلمات والبذاءات وربما طلقات الاغتيال، محل الحجج والبراهين والآراء.. ضاق الأفق وضاقت معه الصدور، وضمر الفكر، وعلت نبرة الكلام الذى ضل هدفه وتاهت منه غايته.. لا يكاد أحدُ يبدى فكراً أو يطرح رأياً إلاَّ وتعاجله فرق الضرب واللكم والكاراتيه، أو الرجم بالكفر، أو قذائف السباب بأقذع الألفاظ.. من يراجع التراشقات والانفلاتات الدائرة الآن فى مصر، يصدمه أنها آية ظاهرة على تراجع العقل وزحف الفراغة وعقم التفكير وتفشى لغة البلطجة.. شيوع هذا التراجع يؤدى إلى تعقيم العقل وتجميد الفكر وإغلاق كل منافذ التقدم والإصلاح!
والسؤال الذى يطرح نفسه بشدة هذه الأيام.. لماذا تجاوزت حملات البذاءة كل حدّ؟! ولماذا لم يعد معظم الناس ينشدون سوى الفضائح والإثارة؟! وأين العقل الفردى والجمعى من تفشى وانتشار هذه الآفات والقذائف اللسانية التى طاشت فيها الكلمات؟!
من ضيق الفكر وتراجع العقل وجموح التعصب، أن تعجز عن رؤية ما يراه غيرك، وأن لا تواجهه إلاَّ بالرفض وربما بالإدانة والشجب، قبل أن تتيح لنفسك فرصة مناقشته والتأمل فيه!
من مظاهر تراجع العقل أن لا تُرى الأمور إلاَّ من ثُقب إبرة!
ومن مظاهر هذا التراجع العقلى أن يُحسب خطأ الفرد على أسرته أو قبيلته أو فئته أو طائفته.. مع أن الخطأ خطأٌ واحد.. لا ذنب ولا جريرة فيه على أسرته أو قبيلته أو فئته أو طائفته.. من أجل هذا تتعقد الأمور وتزداد وتربو العداوات!!
وفى الوقت الذى تنشغل فيه إسرائيل بهدم وتخريب المسجد الأقصى وتهويد القدس والاستيلاء عليها وعلى الجولان السورية، نتعارك نحن حول النقاب الذى يحجب وجه المرأة.. لأنه عورة.. مع أنه خلقة الله تعالى، جعله سبحانه لحكمةٍ وكرامة!!.. ولا يسأل أحدٌ من المتشنجين نفسه لِمَ إذن أمر القرآن المجيد بغض البصر عن النظر للمرأة؟!
من دلائل التراجع الفكرى والحضارى، أنه بعد قرابة قرن من الزمان الذى تنادى فيه قاسم أمين وهدى شعراوى وسيزا نبراوى وغيرهم من المتنورين بتحرير المرأة من أغلال القرون الماضية نرتد ونعود إلى اعتبار المرأة عورة من قمة رأسها حتى أخمص قدميها.. حتى وجهها وكفيها، وألاَّ نرى سبيلاً إلاّ إخفاء عورة الوجه بستار النقاب، وحجب عورة الكفين بالقفاز!!
ومن الغريب اللافت أن يتعامى المجتمع عن زنى المحارم، الذى أخذ يتفشى فى العشوائيات حيث تتلاحم وتتراكم الأجساد والأنفاس فى المزانق الضيقة، بينما يشرئب فريق من الناس لنعت وجه المرأة بأنه «عورة» توجب أن يُسدل عليه نقاب، ثم لا بأس من هذا وغيره ما دمنا ندير أمورنا بالكلمات!!
من البلايا أن تحل بيننا الكلمات محل الأفعال والأعمال، تلال الكلمات لا تبنى مصنعاً ولا تقيم صرحاً وتزرع حقلاً ولا تنجز عملاً. إسهال الكلمات مرض، وأمرض منه أن تنبهم معانيها وتتوه بُوصلتها لتكون وسيلة للمكر واللوع والخديعة والنفاق والخسران، وأمرض الأمراض أن تصاب الكلمة وقد أصيبت بالبذاءة والوقاحة وانعدام الحياء حتى سادت ثقافة الصخب والهدير، وخاف الناس من بذاءة الكلمات، فآثروا اللياذ بالصمت على مضض، تاركين الأمور تجرى فى أعنتها إلاَّ أنه استعصى عليهم أن يبيتوا وبالهم خالٍ!