يتفق المراقبون للتطورات السياسية الجزائرية على أن اللحظة الجارية أصبحت عنواناً كبيراً للانسداد السياسى والتعثر فى وضع خارطة طريق تعبر بالبلاد من مرحلتها الراهنة، التى تتسم بالضبابية وغياب الرؤية الشاملة التوافقية بين القوى السياسية والمؤسسات السيادية ذات الكلمة والتأثير. ممثلو الحراك يصرون على شعارهم الرئيسى وملخصه التخلص من رجال نظام الرئيس المعتزل بوتفليقة، ومحاسبة من تجب محاسبتهم، وهيكلة نظام سياسى يبدأ من القاع إلى القمة، ما يعنى وجوهاً جديدة تحكم البلاد وفق رؤية مخالفة لما سارت عليه البلاد طيلة العقدين الماضيين، وهما فترة حكم الرئيس بوتفليقة. والملاحظ أن هذه المطالب تفتقد أمريْن أساسييْن؛ أولهما الأساس الدستورى الذى يتم وفقاً له التخلص من رجال النظام القديم، وثانياً الأساس القانونى الذى يتم وفقاً له بناء المؤسسات الجديدة. ولرموز الحراك رؤيتهم فى الرد على هذه الانتقادات، معتبرين أن أساس الحراك هو إرادة الشعب ومطالبه التى لا تنازل عنها، ومع ذلك يظل البحث عن الآليات العملية لتحقيق تلك الإرادة محل تساؤل كبير، وأيضاً محل اجتهادات متعددة.
رغم أوجه القصور هذه فهناك إنجازات وتطورات لم يكن من المتصور حدوثها إلا من خلال استمرارية الحراك وغلبة الطابع السلمى عليه، وتجاوب السلطة التى بيدها القرار مع عدد من المطالب الرئيسية، مثل دفع الرئيس بوتفليقة إلى التنازل عن الترشح لعهدة خامسة، واعتقال عدد من رموز نخبته من الوزراء وكبار المسئولين فى مؤسسات مختلفة، مدنية وغير مدنية، بتهم الفساد وسرقة أموال الشعب وهدر الموارد العامة، والبت فى مصائرهم عبر القضاء.
وبينما يصر ناشطو الحراك على أن الطريق ما زال طويلاً ولا بديل عن التخلص تماماً من رموز العهد السابق، تُطرح فى المقابل عدة استراتيجيات للخروج من المأزق؛ أولها وأهمها استراتيجية الالتزام بالدستور وإجراء انتخابات رئاسية فى أسرع وقت ممكن، وعدم ترك الأمور معلقة هكذا فى الهواء والدخول فى حالة فراغ سلطة، تؤثر على مكانة الجزائر وقدرتها على مواجهة تحديات التحول السياسى والقضاء على الفساد وتحسين معيشة المواطنين والخروج من حالة الكسل والجمود فى الملفات والقضايا الخارجية. ولمؤيدى هذه الاستراتيجية عدد من الدوافع التى يرونها الطريق الأيسر، فمن جانب هناك تراجع فى توقعات النمو الاقتصادى، ووفقاً للبنك الدولى لن يزيد النمو المتوقع فى 2019 /2020 على 2 فى المائة، وفق أفضل تقدير، ولن تأتى الاستثمارات الخارجية ما دامت هناك حكومة مهددة بالسقوط، يرافقها غياب كامل لسياسات واضحة ومحددة بشأن التحديات الاجتماعية الحاسمة، مثل ارتفاع نسبة البطالة وندرة فرص العمل وشيوع مظاهر اجتماعية خطيرة كانتشار المخدرات بين أوساط الطبقة الوسطى، وكلما استمرت مرحلة الضبابية هذه فمن المؤكد أن ترتفع تلقائياً حدة تلك القضايا، ويتخوف كثيرون من أن استمرار هذه الحالة سوف يؤدى إلى عزلة الجزائر دبلوماسياً، وحسب ملاحظة أحد مراسلى صحيفة عربية تصدر فى لندن، فقد تراجع عدد الدول المشاركة فى معرض الجزائر الدولى هذا العام إلى 15 مشاركة مقارنة بـ25 مشاركة فى العام الماضى، ناهيك عن ندرة سفر المسئولين الجزائريين إلى الخارج وعزوف مسئولى الدول عن زيارة الجزائر، وبدلاً من أن تمنح الجزائر نصائحها فى الملفات الأفريقية التى اعتادت عليها، باتت هى التى تحصل على نصائح من الدول الأفريقية للخروج من مأزقها الراهن.
ورغم تماسك مثل هذه الاستراتيجية بوجه عام، أى الالتزام بالدستور وإجراء انتخابات رئاسية شفافة، فإنها تواجه تحدى عدم الثقة فى تطبيقها، فى ظل وجود رموز النظام السابق، وهو ما يعتمد عليه ناشطو الحراك فى رفضها جملة وتفصيلاً، باعتبار أنها ستعيد إنتاج النظام القديم ولن تقدم جديداً يقنع الشعب أو تحقق مطالبه. فى ظل هذا التباعد تكثف الحديث عن ضرورة الحوار الشامل من أجل الخروج من حال الانسداد السياسى، وحلحلة الوضع ولو خطوات بسيطة إلى الأمام. بعض الحلول جاءت من الرئيس المؤقت عبدالقادر بن صالح، وبعضها الآخر جاءت من محاولات أحزاب سياسية توصف بالمعارضة ومنظمات مجتمع مدنى، منها ما عرف باسم قوى التغيير لنصرة خيار الشعب، وهى مبادرة شكلتها عدة أحزاب برئاسة الوزير السابق عبدالعزيز رحابى، سعت إلى وضع حلول توافقية عبر حوار عام، ولكنها لم تقنع الحراك لأنها جاءت من أحزاب شاركت فى نظام بوتفليقة، حتى ولو كانت تحمل سمة المعارضة، والأمر ذاته أصاب مسعى سبعة أحزاب شكلت فيما بينها ما يعرف بنداء قوى البديل الديمقراطى. أما المسعى البارز فتمثل فى مبادرة الحوار الوطنى التى ضمت طيفاً واسعاً من شخصيات معارضة وجمعيات مجتمع مدنى ومنظمات نقابية وعناصر شبابية، وأطلقت على نفسها «منتدى المجتمع المدنى للتغيير»، واقترحت تشكيل هيئة وطنية للحوار من شخصيات مستقلة تقوم بوضع خارطة طريق يلتزم بها الجميع، وأن تشرف على الانتخابات الرئاسية المقبلة، وهو ما قبلته الرئاسة المؤقتة، وحددت ست شخصيات تتولى هذا الحوار، وهم كريم يونس (رئيس البرلمان بين عامى 2002 و2004) كمنسق للمجموعة، وفتيحة بن عبو وبوزيد لزهارى (خبيران دستوريان)، وإسماعيل لالماس (خبير اقتصادى)، وعبدالوهاب بن جلول (نقابى)، وعز الدين بن عيسى (أستاذ جامعى). ووفقاً للاقتراح «سوف تعقد «ندوة وطنية» بعد جولات التشاور التى ستنظمها الهيئة، للمصادقة على قرارات الحوار، على أن تلتزم كل الأطراف المتحاورة بتنفيذ هذه القرارات ويكون الشعب هو الضامن لها، كما تلتزم السلطة الحالية بتنفيذها من دون الطعن أو التدخل فيها».
بيد أن الأمر ما زال يواجه بعض قيود، تتمثل فى شروط ناشطى الحراك لدعم هذا الحوار الوطنى وإنجاحه، وأهمها الإفراج عن المعتقلين من الحراك، وقيام السلطة بإجراءات تهدئة وثقة ورفع القيود على المسيرات السلمية، ورفع القيود عن وسائل الإعلام، يضاف إلى ذلك أن بعض تلك الشخصيات ليست محل قبول شعبى، ومن هنا جاء اقتراح توسيع عدد المشاركين فى تلك الهيئة.
وكما يوجه الناشطون سهامهم لكل الرموز السياسية، يؤكد مراقبون جزائريون أن الحراك فى وضعه الراهن هو جزء من المشكلة، فهو غير محدد المعالم كقوة سياسية، وبحاجة ماسة إلى تعديل مسيرته، وأن يبدأ بمأسسة نفسه وتعيين ممثلين واضحين له، أى يصبح قوة سياسية منظمة ومعروفة للجميع، وأن يقبل بضمانات متبادلة مع كل المؤسسات السيادية، إذ بدون هذه التغيرات الهيكلية سيظل الوضع الجزائرى معلقاً فى الهواء ولن يفيد أحداً.