الحديد حين يحتك بحديد ينجم عنه أصوات اصطدام بالغة الإزعاج. ومع الاصطدام يأتى تهشم متوقع فى الألواح الحديدية، فتتساقط منها أجزاء، وتضيع معالمها وتتفتت ملامحها. وليت الأمر يتوقف على ذلك فقط، بل يمتد ليصبح اللوحان غير صالحين للاستخدام بعد ذلك.
الغريب أنه يمكن تجنب هذا الاصطدام المقيت بقليل من مواد التشحيم والتزييت أو «Lubricant» لكننا لا نفعل.
ومجتمعنا فى حاجة ماسة إلى مادة التشحيم تلك لأن مظاهر وظواهر وملامح وأمارات الاحتكاك الطبقى ظاهرة واضحة صريحة لكل ذى قدرة على المعايشة والتحليل.
منظومة الساحل تتعرض للشد والجذب، حيث الناس اللى فوق يتمسكون بتلابيب خصوصيتهم وتفردهم وأسلوب حياتهم الخاص بعيداً عمن يعتبرونهم «سوقة ودهماء». فإن دخل هؤلاء منتجعاتهم، تحولت الشواطئ إلى سيدى بشر وأبوقير وبلطيم وجمصة. هم لا يتفوهون بذلك إلا فى جلساتهم الخاصة وبينهم وبين بعضهم البعض. والجانب الأكبر من الملايين المدفوعة فى شقة وشاليه وفيلا مخصصة للإبقاء على المكان مغلقاً فى وجوه «الناس اللى تحت».
«الناس اللى تحت» بالطبع ينظرون إلى أولئك نظرة لا تخلو من مقت وحقد. فكل منا يحلم بأن يقفز درجات أعلى سلم الهرم. لكن قليلين فقط من يدركون أن صعود الهرم يتطلب إما جهداً جهيداً نحتاً فى الصخور أو هو مورث من جد إلى أب إلى ابن، أو يتحقق عبر النهب والسرقة والاحتيال. لكن الغالبية تستكثر هذه العيشة المنعمة على الآخرين، ومنهم من يشعر بالظلم المدقع والقهر المطلق لأنه لا يستمتع بها.
الاستمتاع النابع عن قيم يبدو أنها أصبحت كلاسيكية قديمة من رضا وقناعة وغيرهما لم يعد لهما أثر إلا فيما ندر. ملصق «القناعة كنز لا يفنى» المعلق أعلى دماغ الموظف المسئول عن إنهاء أوراق خدمية فى مصلحة حكومية موجهة لفئات أغلبها يقطن قمة الهرم الاقتصادى، وفى الوقت نفسه الموكلة إليه مهمة تكفير هؤلاء الناس فى عيشتهم وتكديرهم والتنكيد عليهم لا يفوت فرصة إلا ويبلغهم بالهمز واللمز أن «ناس لها حظ وناس لها ترتر».
ولأن الترتر يعد وسيلة الإكسسوار الوحيدة الباقية فى متناول اليد، فقد أصبح استخدامه المفرط فى الترصيع على عباءات الخليج السوداء التى باتت زياً شبه موحد لكثيرات فى مصر، مقبولة ومحمودة من رجل الشارع. لكن الترتر نفسه لو ارتدته فتاة أو سيدة ممن لا يرتدين العباءات السوداء ويبدو من مظهرهن أنهن من سكان النصف الأعلى من الهرم، يتحول إلى نقمة ومدعاة لعبوس رجل الشارع وغضبه ومقته، بل وترجمة ذلك إما بالتحرش أو بالبرطمة بكلمات تنم عن رفض وتوجس.
وبالمناسبة فإن الرفض والتوجس يسير «رايح جاى». وصعوبة الحياة وشظفها والأوضاع الاقتصادية الصعبة والملتبسة وغير المفهومة التى نعيشها هذه الأيام، ومعها القرارات الاقتصادية العجيبة الغريبة التى يتم اتخاذها دون تبرير أو تنعكس خدمات وتحسن فى مستوى المعيشة ونوعيتها، جميعها عوامل أدت إلى تصاعد هذا الرفض والتوجس بين الطبقات.
هذه المشاعر أقرب ما تكون إلى ارتطام واحتكاك ألواح الحديد ببعضها البعض. هو احتكاك ينجم عنه ضجيج عالٍ و«زيطة» وتآكل وخسائر جمة. وتجاهلنا لمظاهر هذا الاحتكاك ضعف وانتحار. كم مرة شهدنا فيها حديثاً استعلائياً كارهاً لـ «التوك توك» والمنتسبين لمنظومته الاجتماعية؟ وكم مرة شهدنا من يتحدث عن قساة القلوب المقيمين فى كوكب مغاير ممن يركبون السيارات الفارهة ويسكنون الفيلات الفاخرة؟ وكم مرة تابعنا الفنان محمد رمضان بقرف وسخط وصببنا عليه وجمهوره اشمئزازنا محمّلين إياهم تردى السلوكيات وتدهور الذوق العام وانهيار الأخلاق؟ وكم مرة تابعنا عبارات وأحاديث ساخرة ممن يذهبون إلى الأوبرا لحضور حفل موسيقى أو عرض راقص باعتبار أولئك «ناس مش عايشين معنا»؟!
وفى عز هذه الاحتكاكات المفتقدة لزيوت التشحيم تجد ما تسمى بالطبقة المتوسطة نفسها مهروسة مسحوقة متساقطة كأثر جانبى من آثار الاحتكاك. ويشير البعض إلى أن ما يتم اقتصاصه من جيوب من يملكون ودخولهم يجرى ضخه فى جيوب من لا يملكون، وأن هذا شكل من أشكال العدالة الاجتماعية. وهذا كلام جميل وكلام معقول. لكن ليس من الجميل أو المعقول أن أمد يدى فى جيب من يملك، أو بالأحرى من كان يملك من أبناء الطبقة المتوسطة لأعطى من لا يملك، فأترك هذا مهدداً بالارتطام بخط الفقر، وذاك مستمراً فى سباق الأرانب منجباً المزيد والمزيد من المحتاجين لقدر أكبر من العدالة الاجتماعية، ومن ثم المزيد من مد اليد.. وهلم جرّا.
بقاء الحال على ما هو عليه يهددنا جميعاً. سكان القمة مستنفرون يشعرون أنهم مهددون بغزو القاعدة وسلب ما يملكون. وسكان القاعدة غير قانعين وعيونهم مثبتة على من يملكون. وبينهما سكان الوسط حائرون مهروسون مقهورون.
نحتاج تشحيماً طبقياً على وجه السرعة.