العنوان أعلاه ليس لى، بل هو العنوان الذى اختاره الإذاعى القدير والكاتب الحصيف الأستاذ سيد الغضبان لمذكراته، التى أُذيعت منها تسع حلقات على موقع «أصوات أونلاين»، وهى حلقات انطوت على أسرار ومفاجآت ومفارقات مهمة وغريبة.
وأما الأثير، فتعريفه كما يرد فى القواميس هو «بريق السيف، أو المفضّل على غيره، أو الوسط الافتراضى الذى يعم الكون وتمر عبره موجات البث الإذاعى»، وأما العمر فهو أكثر من تسعة عقود عاشها السيد الغضبان، منها سبعة عقود عمل خلالها فى الحقلين السياسى والإعلامى، على مقربة من صنّاع القرار والفاعلين الرئيسيين، الذين كان واحداً منهم فى بعض الأحيان.
لم تفوّت الإعلامية منى سلمان هذه الفرصة النادرة بطبيعة الحال، حيث تقوم بتقديم الحلقات ومحاورة الغضبان بطريقتها الواعية المثقفة، وقد أسبغت على ما يحكيه من وقائع وأسرار الكثير من الديناميكية، عبر ربطها دوماً بسياقها، ومحاولة تحليلها، بطريقة تأخذ راوى المذكرات إلى أبعاد مهمة، وتحمله على تقديم تفسيرات ضرورية، بحيث تكتمل الرؤية وتتضح الأفكار.
لم يكن لهذا العمل المهم أن يرى النور، لولا وجود الإعلامية البارزة لينا الغضبان، التى قامت بدور كبير فى تحفيز والدها على البوح بما تمتلئ به خزانة ذكرياته، إضافة إلى التهيئة اللوجيستية والفنية لتظهر حلقات «أثير العمر» فى صورة جيدة تتناسب مع أهمية المحتوى المقدم عبرها وتليق بمكانة الراوى الكبير. تحمل كل حلقة من حلقات «أثير العمر» جديداً أو مدهشاً أو مثيراً للجدل، لكن المجال لا يتسع هنا لسرد الكثير، لذلك سأتوقف عند ما ورد فى الحلقتين السابعة والتاسعة، وهما حلقتان اختصتا بعرض وقائع جرت فى أجواء حرب العام السابع والستين وما بعدها.
فى الحلقة السابعة يؤكد الغضبان ما سبق وأكدته محاضر اجتماعات الرئيس الراحل جمال عبدالناصر بعد «النكسة»، عن محاولته إصلاح النظام من الداخل وتحرير الفضاء السياسى والإعلامى.
لكن اللافت فيما يكشفه الغضبان فى هذا الصدد هو أن محاولات عبدالناصر لإصلاح النظام السياسى، كانت سابقة على الهزيمة العسكرية بكثير، ومنذ منتصف الستينات، وهو ما تجسد فى فكرة تأسيس إذاعة تسمح بنقده ونقد نظامه وتشجيع الأصوات الوطنية الناقدة لجوانب النقص فى التجربة.
ويتطرق الغضبان إلى مشروع إنشاء هذه الإذاعة التى تم اختيار اسم «الطليعة» لها، والتى قام على تأسيسها قبل عدوان 1967، وكيف أنه استعان فيها بصحف المعارضة المصرية والعربية. وقد قام الغضبان بتنفيذ أسبوع كامل لهذه الإذاعة، بناء على طلب عبدالناصر. ورغم أنها كانت أشبه بالنقد والهجوم على سياسته، فإن عبدالناصر عندما استمع إلى شرائط تلك البرامج والفقرات، لم يطلب أن يُحذف حرف واحد مما قيل فيها، ومع ذلك فإن هذه التجربة لم ترَ النور.
وفى الحلقة التاسعة يحكى الغضبان عن حصوله على وسام الأرز اللبنانى من درجة فارس، بعدما استطاع أن يقوم بدور «سياسى» من خلال عمله الإعلامى حين كان مراسلاً فى لبنان أثناء حرب الاستنزاف.
يقول الغضبان: «فى نهايات عام 1968 قام الجيش اللبنانى بمحاصرة مخيم صبرا وشاتيلا فى بيروت بالدبابات وقوات كثيفة، وأنذر المقيمين فى المخيم بضرورة تسليم أسلحتهم قبل غروب نفس اليوم، مهدداً باقتحام المخيم لنزع هذا السلاح إذا لم يمتثل الفلسطينيون.
اتصل بى السفير المصرى وأبلغنى بأن الرئيس عبدالناصر أرسل برقية غير مشفرة يطلب إبلاغها لرئيس الجمهورية اللبنانية شارل حلو، والبرقية تطلب، بعبارات أقرب ما تكون إلى الإنذار، ضرورة فك الحصار المضروب على المخيم فى موعد أقصاه مساء هذا اليوم.
وطلب منى السفير أن أتصل بالقيادات الفلسطينية وأطمئنهم حتى لا يبادروا بأى تحرك مستفز. هدأت الأمور لبضعة شهور ثم بدأت المناوشات من جديد، هذه المرة بين بعض الأحزاب الرافضة للوجود الفلسطينى بلبنان وبين الفلسطينيين. وفى صباح أحد الأيام تم إطلاق خمسة صواريخ على مكتب منظمة التحرير بشارع المزرعة، فدمرت المكتب وأصيب عدد من العاملين. وصلت إلى هناك بعد فترة وجيزة من الهجوم لأجد مدير مكتب منظمة التحرير الفلسطينية شفيق الحوت وسط حشد من الصحفيين يجيب عن أسئلتهم، مؤكداً أن الشباب تمكنوا من معرفة هوية من أطلقوا الصواريخ وأنهم ينتمون إلى أحد الكيانات الحزبية اللبنانية الناشطة آنذاك.
طلبت من الأستاذ شفيق أن نلتقى على انفراد.. ناشدته أن يصحح تصريحه للصحفيين، ويركز اتهامه على المخابرات الإسرائيلية واستخدامها عملاء لبنانيين، دون تحديد هويتهم أو انتمائهم، تلافياً لحدوث أى اشتباكات بين الفلسطينيين وبعض القوى السياسية اللبنانية.
استجاب الأستاذ شفيق وسجلت له تصريحات بهذا المعنى، وأرسلتها إلى القاهرة، فأذيعت فى الإذاعة المصرية. واتصلت بوكالة الأنباء الوطنية اللبنانية وأبلغتها الخبر بالصيغة المتفق عليها، وعممت بدورها الخبر.
فى المساء اتصل بى السفير المصرى ليبلغنى بأنه نقل إلى المسئولين اللبنانيين تفاصيل ما جرى بينى وبين شفيق الحوت وأنهم ثمّنوا هذا الجهد الذى جنّب البلاد أزمة جديدة. وأبلغنى بأن رئيس الجمهورية اللبنانية منحنى وسام الأرز بدرجة فارس، تقديراً لما رآه من جهد لمحاصرة الأزمات اللبنانية - الفلسطينية. وقام وزير الإعلام اللبنانى بتقليدى الوسام».
ويتساءل الغضبان: «لقد كنت، وما زلت، أعتقد أن ما فعلته آنذاك كان عملاً مهنياً وأخلاقياً، لأننى استطعت من خلاله أن أحول دون وقوع أضرار بالغة بالمصلحة الوطنية العليا، وخصوصاً أن ذلك حدث بدوافع ذاتية محضة، وليس من خلال إملاءات سلطوية. واليوم، وبعد نصف القرن من هذه الوقائع، أجد نفسى منفتحاً لتلقى إجابات عديدة ومختلفة عما إذا كان تصرفى بالتدخل فى فحوى الأخبار وصياغتها بطريقة تخالف الواقع كان مقبولاً، أم كان عملاً مخالفاً للقواعد المهنية؟».
إن استعادة مثل تلك الوقائع، وطرح مثل تلك الأسئلة، هو ما يجعل «أثير عمر سيد الغضبان» مهماً لكل من يهتم بتاريخ مصر السياسى والإعلامى فى فترة ما بعد منتصف القرن الفائت، وخصوصاً أن هذا الإعلامى الكبير لا يقدم سيرته باعتبارها مساراً مشرقاً يجب أن يحظى بالتقدير والإعجاب، ولكنه يشاركنا الأسئلة إزاءها بتواضع يليق بمكانته ومناقبه.