عشت مع جورج سانتايانا، الفيلسوف والشاعر الأمريكى، فترة غير قصيرة، طالعت فيها بعض أعماله، ونقلت إلى العربية منذ سنوات باباً من كتابه «حياة العقل» Life of Reason، كتبه تحت عنوان: قد تكون الديانة تجسيداً للعقل، وبالإنجليزية: How religion may be anembodiment of reason.
أورده «سانتايانا» ضمن جزء أكبر من كتاب بعنوان العقل فى الديانة Mind in religion، وبقيت مخطوطة الترجمة لدّى طويلاً، حتى دفعت بها إلى مجلة الهلال الشهرية التى جعلت تنشرها على مدى عشرة أعداد، قبل أن يجمعها «كتاب الهلال» فى عدده رقم 707 الذى صدر فى نوفمبر 2009.
وقد قرأت مؤخراً فصلاً من كتاب «سانتايانا»: «الأفلاطونية والحياة الروحية»، والفصل بعنوان «حياة الروح ذلك الشىء المجنّح» The life of this winged thing، spirit، أحببت أن أنقل إليكم بالعربية هذا الفصل أو هذه اللطيفة، فيها يقول «سانتايانا»:
تتميز الحياة الروحية عن الأخلاقية الدنيوية والذكاء بمفارقة الوهم مع معاناة هذه المفارقة وليس بالمزيد من المعرفة.
ومهما يكن حظها فى الدنيا متواضعاً، فإنها ترفع المساعى العادية أو القليل منها إلى ضياء الخلود.
لأن الجانب الخالد من الأشياء ينتزع الروح من انغماسها الأوّلى فى الحس الحيوانى والإيمان الحيوانى (animal faith) لكى تصير روحاً نقية، علماً بأن الجانب الخالد فى الأشياء هو هو جانبها المباشر.. لأن خبرتنا بأى موضوع متى طرد منها القلق والاعتقاد يتبقى منها جوهرها فقط.. هذا الجانب المباشر من الأشياء نهائى من الوجهة السيكولوجية والاستبطانية، لأن وجود الشىء الواقعى المعين عرضى، مبناه ظروفه، بينما وجوده كتنويع للوجود العام الضرورى وجودٌ دائم لا يُمحى، والروح تعيش فى إحساسها بالنهائى ضمن المباشر!
هذه الحياة الروحية، لا تعيش على الوهم، ولا يصيبها ما قد يصيب الأخلاق الدنيوية والصفات الأرضية للإنسان، فالروح وحياتها هما اللتان مهما تواضعتا تربطان الإنسان وتشدانه إلى المعنى الجامع، وإلى ضياء الخلود.. هذا الضياء الذى يشد الروح دائماً وينتزعها من الحس الحيوانى أو من الإيمان الحيوانى «animal faith»، وينقيها مما يعترض اتصالها بهذا الضياء المباشر الذى لا يُمحى.
إن الروح الفانية، أى الروح فى الحيوان، لا يمكنها أن تمسح مساحة الوجود العام النقى فى لا نهائيته، لكنها بقدر ما تتخلص من الانفعال الحيوانى والإيمان الحيوانى يمكنها أن تشاهد وجوداً ما محدوداً فى نقاوته.
على أن هذا النماء الروحى، لا يتحقق ولا ينمو بغير «تربة» تهيئ له وتحميه.
والدين والأخلاق بحمايتهما العيون من الأضواء والتشتيت، وبتركيزهما على المواضيع النبيلة يمهدان تربةً للروح أفضل من الحياة المشتتة الشاردة، ولا يعنى هذا أن الروح قد لا تظهر بصورة مدهشة فى الخطاة والعصاة كما تظهر فى الشاعر والطفل!
صفحة الشاعر وصفحة الطفل، صفحة مهيأة لظهور الروح بصورة مدهشة.
ثم يقول «سانتايانا»: ولكن إذا قامت الأخلاق والأديان ببسط الضغط على الروح أو بالمبالغة فيه، فإنهما يصبحان شيطانين بالنسبة للروح.. لا يقلان فى ذلك عن البحث الحيوانى عن الطعام أو الجنس أو السلامة.
ثم أليست الأخلاقية عدواً أشد للروح من اللاأخلاقية؟ أليست أكثر خداعاً وأشد تقييداً؟ ألم يكن أولئك الشعراء الرومانسيون فى حياتهم غير المنتظمة أكثر روحانية من الجمهور الصالح الذى أزعجوه؟
شيلى وليوباردى وألفريد دى موسيه كانوا أساساً أطفالاً من أطفال الروح، طاروا بأجنحة محطمة ينقصهم التزام الحد والانضباط، فكانوا فى حالة تشرد روحى لم يتعلموا رؤية نسبية.. عواطفهم شديدة الكبْر.. لم يتعلموا أن الروح الكاملة صابرة على التحمل والتعلم.
ليس العالم الذى نعيش فيه عالماً مثالياً خالياً من الأوزار والأدران، ومن دواعى الشطط والانحراف.. هذا العالم ليس عالماً محترماً.. إنه عالم فانٍ متحيِّر مخدوع على الدوام.. ولكن يتخلله جمال وحب وومضات شجاعة وضحك، وفى ذلك تنفتح الروح مترددة خائفة كادحة إلى النور منطلقة إليه من خلال الأشواك.
تلك هى الحياة المناسبة للروح.. ذلك الشىء المجنّح.. على هذه الأرض القديمة المادية غير النظيفة.. والروح من جهة سعيدة بأن تحيا لحظتها لا تفكر فى الغد.. لأنها تستطيع أن تستمتع بأصغر العطايا كما تستمتع بأعظمها.. إنها صوت الطبيعة النقى النضر العذب.. ليس فى وسعها تكلف المظهرية الأخلاقية أو المظهرية العرفانية.
إنها تتجاهل أصلها.. فى انطلاقها ونورها المعجز يبدو ذلك لعينها شيئاً عادياً.
تجد عملها فى كل مكان مضغوطاً عليه ومشروطاً من خارجه، لكنها تمر خلال النار هادئة لا تأبه ولا تصدق ولا تقهر.. ومن جهة أخرى فإن الروحُ ترى المرئى فى إطار اللامرئى الذى هو الإطار الصحيح، وتركز عينها بالفطرة على اللحظات التى لا عداد لها.. هذه اللحظات التى ليست هى اللحظة الحالية، وتركز عينها على المسرات التى ليست هى هذا الحزن، وعلى الأحزان التى ليست هى هذا السرور، وعلى آلاف الآراء التى ليست هى هذا الرأى، وعلى ألوان الجمال التى ليست هذا الجمال.. إنها تفهم كثيراً جداً بحيث لا يمكن قط حبسها، وتحب كثيراً جداً بحيث لا يمكن أن تقع فى غرام أحد.. إنها، أى الروح، تجعل الجسد بارداً وهى نار.. أو كما قال الكاهن «دين»: إن الفكر إذا اشتد واحتد يجعل العواطف باردة لأنها تواجه وتضبط، ومع التفكير العميق وحيث الضحكات والدموع تنبض معاً كالنجوم فى سماء قطبية كل منها يلمع لمعاناً لا يختفى، وجميعها بعيد بعداً ليس له حد!
ويجب ألا ننسى أن عواطفنا حتى الآن تعيش أكثر ما تعيش على ميلنا الذى يكاد يكون فطرياً إلى الإيمان المريح، وهو دائماً مبنى على الاعتقادات ووجهات نظر دينية أو أخلاقية أو سياسية أو علمية أو اجتماعية أو أسرية.
وهذا الإيمان بشىءٍ ما لا تخلو منه نفس بشرية، والذى يصعب على كل منا تركه، يعطينا راحة التسليم والكف عن الانشغال والقلق لأمر من أمورنا موجودٍ فعلاً أو توهماً.
وهذه الراحة تساوى عندنا وتزيد على العناء الذى نكابده فى استمرار البحث والتحقيق والتمحيص العقلى.. فهو من هذه الزاوية ينقذنا من حيرة العقل وشكوكه وتمرده على الغيب الذى يجتاحنا.. وهو أيضاً سهل الانتشار واجتذاب المرافقين والأنصار والأتباع، وتوفير المحيط أو البيئة التى تفسح لنا مجال الحركة الميسرة الموالية والمواتية، ويعطينا فرصاً طيبة للإنشاء والبناء إنْ أردنا ذلك بعزم.. كما قد يعطينا فرصاً متسعة للهدم والتخريب والتدمير فى تيارات الأحقاد والعداوات والفتن التى تجرى وتشتد فى محيطنا!!
وللإيمان دوره فى وجود الحضارة الحالية كما كان له دوره فى كل حضارة سابقة، وللاعتقاد فى العقائد الملبوسة دور فى الفتن والقلاقل والحروب فى قرننا الحالى والقرن الماضى، كما كان فى كل القرون السابقة.. لأننا بالغين ما بلغنا من المعرفة والفهم والتطور والرقى، لم نتخل عن الانصياع للعواطف والانزلاق فى تياراتها إيجاباً وسلباً! ويدين تقدمنا وترقينا وتطورنا بالكثير للإيمان الصادق الصحيح الذى يدفعنا إلى المثابرة والإصرار على العمل والإتقان، والرضا ببذل الجهود وأحياناً بالمخاطرة بالحياة نفسها وببذلها.
فالإصرار والمثابرة على العمل الجاد فيهما دائماً ووراءهما، دافع إيمانى بشىء قد
لا نعيه، لكنه موجود وباقٍ يؤدى مهمته فى صمت وبلا ضجيج. قد نفخر بنتائج أعمالنا وبما كلفتنا من عناء ومشقة، لكن لا نتذكر القوة الداخلية الدافعة وراء رضانا بهذه المكاره. هذه القوة الدافقة هى إيماننا العميق بشىء معين اعتنقناه وأطعناه بلا أى تردد أو مناقشة.
وتصعيد الإيمان بهذا الشىء المعين، إن جاز التعبير، إلى الخالق جل وعلا خطوة ترقٍّ.. ليس فقط فى إنجاز هذا أو ذاك من أعمالنا، وإنما فى غاياتنا وأغراضنا ومقاصدنا من تلك الأعمال، وفى ألا يشذ من أغراضنا ومقاصدنا هذه غرض أو مقصد إلى شر خاص أو عام نندم من أجله على ما أتيناه ونفذناه أو شرعنا فى تنفيذه فى سبيله!