فى يوم 5 أكتوبر 1973 التقى الزيات، وزير الخارجية المصرى، بكيسنجر، وزير الخارجية الأمريكى، الذى قال للزيات إن هذا العام مخصص للقضايا الأوروبية، وستؤجل قضايا الشرق الأوسط، فلما عبرت القوات المصرية القناة وحققت نصراً غير متوقع أدهش العالم، تغير كيسنجر وأمريكا تماماً وجعلوا قضية الشرق الأوسط فى مقدمة أولويات السياسة الأمريكية. لن يهتم أحد بمصر إذا كانت ضعيفة، أما إذا كانت قوية فسوف يهتم بها العالم بأسره، الأقوياء وحدهم هم الذين يؤثرون فى حركة التاريخ والسياسة. قابل السفير البريطانى السادات يوم 10 أكتوبر، وسأل السادات عن استعداده لقبول وقف إطلاق النار مع بقاء القوات المصرية شرق القناة، فرفض السادات العرض لأنه خاف من تكرار الخدعة البريطانية للعرب فى حرب 48، حينما فرضت الهدنة على العرب وأعطوا السلاح المتقدم للإسرائيليين وخرقوا الهدنة واستولوا على الأراضى الفلسطينية.
الدهاء البريطانى تسبّب فى أكبر أزمات العرب وتقسيم بلادهم وإيجاد إسرائيل حتى أصبحت أقوى من العرب، وبريطانيا وأمريكا وغباء صدام أسباب تقسيم العراق وتدميره وتحويله إلى أطلال دولة. كوارث العرب الحديثة وتمزقهم بدأ باحتلال صدام للكويت، وأكبر أزمة لصدام بعد حربه مع إيران دخوله فى حالة «خداع النفس» واعتقاده بأنه أعظم قائد هزم إيران، مما أدى لاغتراره وجيشه ومقامرة غزوه للكويت. الحرب العراقية الإيرانية صُنعت صُنعاً على يدى الأمريكان وحلفائهم، وبعضهم عرب شجعوا وأغروا صدام بالحرب العبثية مع إيران وقدموا له التسهيلات. وبعد نهاية الحرب بدأت الدوائر الأمريكية والغربية والإسرائيلية تخوّف الجميع من صدام وتحرّض ضده، وقد ساعدهم غباء صدام فغزا الكويت وأطلق عدة صواريخ على إسرائيل لم تصب أحداً وجعلت العالم كله يحشد قواه ضد صدام والعراق ليتم تدميره ووطنه. عملية خداع النفس التى حدثت لصدام أعتقد أنها تحدث لكثيرين من قادة الشرق الأوسط الذين ضيّعوا بلادهم فى مغامرات غير محسوبة. أكبر خطأين وقعت فيهما مصر قبل هزيمة 5 يونيو هو طلب سحب قوات الأمم المتحدة التى حافظت على السلام بين مصر وإسرائيل عشر سنوات، وإغلاق خليج العقبة أمام الملاحة الإسرائيلية، فظهرت مصر، دون أن تشعر، أمام العالم على أنها المعتدية وإسرائيل المعتدَى عليها، فضلاً عن حشد القوات لسيناء دون ترتيب ولا تنظيم، لك أن تقارن بين هذه الخطوات العبثية قبل 5 يونيو 67 وبين دهاء السادات وحكمته فى التجهيز لحرب أكتوبر، هذا هو الفارق بين ناصر والسادات، وكلاهما وطنى ومخلص. الاستقبال التاريخى لعبدالناصر فى الخرطوم بعد هزيمة 5 يونيو وموقف رئيس السودان والرؤساء العرب وقتها كان من أهم الأسباب لرفع الروح المعنوية لعبدالناصر وشعوره مجدداً بالأمل فى هزيمة إسرائيل ورفع عدوانها، مصر لها أفضال على السودان، والعكس صحيح، وكلاهما لا يستغنى عن الآخر.
نصر عبدالناصر السياسى فى معركة السويس ودعمه للشعوب العربية ضد الاستعمار، وخاصة الجزائر، هو الذى منحه المشروعية الحقيقية لحكمه، ونصر السادات فى حرب أكتوبر هو الذى منحه المشروعية الحقيقية والواقعية لحكمه. استغل السوفيت دخول الجيش الأمريكى لفيتنام فى الستينات وحوّلوها إلى مستنقع لهم استنزف أمريكا جيشاً واقتصاداً، واستغلت أمريكا دخول السوفيت لأفغانستان، فحوّلتها أمريكا لمستنقع لهم ساهم فى إسقاط الإمبراطورية السوفيتية، ردوا لهم الصاع صاعين.
ذهبت جولدا مائير، رئيسة وزراء إسرائيل، إلى نيكسون أثناء الأيام الأولى لحرب أكتوبر وطلبت منه إنقاذ إسرائيل، فقام بأكبر عملية نقل جوى للسلاح المتطور، ذلك ليعرف قيمة نصر أكتوبر فى أيامه الأولى من يشكك فيه، ولولا هذا الجسر الجوى الأمريكى لما استطاع الإسرائيليون الصمود أمام الجندى المصرى الأسطورة، ولولا الجسر لما بدأت الثغرة وتحول مسار الحرب بعدها.