غير بعيد عن مسقط رأسى فى منطقة قايتباى بقلب القاهرة يوجد ضريح الإمام الشافعى فى منطقة المقابر التى تحمل اسمه، غير أنى لم أزره حتى منتصف التسعينات عندما كنت أعمل على تحقيق صحفى عن رسائل المصريين للإمام الشافعى، وهو عنوان بحث وكتاب شيق للدكتور سيد عويس عالم الاجتماع الشهير، والذى أصدر طبعته الأولى عام خمسة وستين وأعقبه بطبعة ثانية عام ثمانية وسبعين «رسائل إلى الإمام الشافعى - ظاهرة إرسال الرسائل إلى ضريح الإمام الشافعى - دراسة سوسيولوجية».
وللإمام الشافعى مكانة فى نفوس المصريين عظيمة ولزيارة ضريحه لدى بسطائهم هيبة وجلال، لمستهما بنفسى حين زرت الضريح والتقيت عدداً من رواده الذين كانوا يلقون برسائلهم إليه طلباً لعدل افتقدوه، أو أملاً فى نصر على خصم ما بهم طاقة لمواجهته، أو حتى استشارة فى أمر استعصى عليهم.
وُلِد الإمام الشافعى فى غزة عام مائة وخمسين هجرية وتوفى بمصر عام مائتين وأربعة، بعد أربعة وخمسين عاماً لعب خلالها الدور الأبرز فى تأسيس علم أصول الفقه، وهو الإمام الثالث بين الأئمة الأربعة الأشهر لدى أهل السنة بعد الإمام أبى حنيفة الذى توفى فى ذات العام الذى ولد فيه الشافعى، والإمام مالك الذى تتلمذ الشافعى على يديه، وعنه يقول: «مالك بن أنس معلمى، منه تعلمنا العلم، وإذا ذكر العلماء فمالك النجم، وما من أحد أمن على من مالك».
كان الإمام الشافعى يُجل الإمام مالك إجلالاً كبيراً حتى بلغ به الأمر أن قال «إنما أنا غلام من غلمان مالك».
غير أن هذا لم يمنع الشافعى من أن يخالف الإمام مالك فى كثير من آرائه الفقهية خاصة فى رحلته إلى مصر والتى شهدت تغييراً فى كثير من آرائه الفقهية. وصل الشافعى مصر أواخر عام مائة وتسعة وتسعين هجرية، على أرجح الأقوال، وكان المصريون آنذاك منقسمون بين المذهب الحنفى ومذهب الإمام مالك، غير أن أتباع المذهب المالكى كان فيهم حدة وتطرف فى الانحياز لمذهبهم، ولعب هذا التطرف دوراً فى دفع الشافعى إلى إعادة النظر فى كثير من آراء أستاذه مالك.
وفى هذا يقول: «إنما رجعت إلى أقوالى الجديدة لأننى لما دخلت مصر بلغنى أن بالمغرب قلنسوة من قلانس مالك يستسقى بها الغيث فخفت أن يتمادى الزمان ويعتقد فيه ما اعتقد فى المسيح فأظهرت خلافه ليعلم الناس أنه إمام مجتهد يخطئ ويصيب».
وكان الشافعى يقول فى هذا: «استخرت الله تعالى فى ذلك سنة».
والواقع أن الشافعى لم يجتهد لمخالفة الإمام مالك طلباً للمخالفة وحسب ولكن بحثاً عن الحقيقة واجتهاداً فى طلب الحق، وهو القائل: «إن رأيى صواب يحتمل الخطأ ورأى غيرى خطأ يحتمل الصواب».
المهم أن مراجعة الشافعى لآراء مالك، واتساع مساحات تأثيره فى مصر، لم يروقا لشيوخ المالكية، وأغاظا فقيه الديار المصرية أشهب بن عبدالعزيز القيسى العامرى وكان صاحب الإمام مالك، ووصل الأمر بأشهب إلى أنه كان يدعو فى سجوده على الإمام الشافعى ويقول: «اللهم أمِت الشافعى وإلا ذهب علم مالك». وبلغ هذا الشافعى فأنشد شعراً يقول فيه:
«تمنى رجال أن أموت وإن أمت
فتلك سبيل لست فيها بأوحد
فقل للذى يبغى خلاف الذى مضى
تهيأ لأخرى مثلها».
فمات الشافعى ولحق به أشهب بعده بثمانية عشر يوماً.
ولم يتوقف أتباع المذهب المالكى فى مصر فى بغضهم للشافعى عند حدود الدعاء عليه بل كانوا يحاولون الوقيعة بينه وبين الولاة والحكام وطالبوا الوالى بأن يخرجه من مصر وقالوا له: «أخرجه عنا وإلا افتتن البلد»، فهَمّ بإخراجه حتى أتاه الشافعى والهاشميون لكنه أصر على إخراج الشافعى من مصر، فطلب الشافعى أن يؤجله ثلاثة أيام فأجّله، لكن الوالى مات فجأة فى الليلة الثالثة فنجا الشافعى من الإبعاد عن مصر.
فهل توقف الأمر عند هذا الحد؟
بالطبع لا، فقد قيل فى وفاة الإمام الشافعى إن عدداً من أتباع فتيان ابن أبى السمح، وهو من أتباع المذهب المالكى وكان قد عارض الشافعى فى مخالفته للإمام مالك، تجمعوا فى أحد دروس الإمام الشافعى وانتظروا حتى خرج أصحابه وبقى وحيداً فى المجلس فانهالوا عليه ضرباً بالعصى والهراوات ضرباً مبرحاً، حتى نقل إلى منزله ومات بعدها.
وسواء كان سبب وفاة الإمام الشافعى ما تعرض له من ضرب وإهانة على يد المتعصبين من المالكية أو كان بسبب مرضه «بالنزيف بسبب البواسير»، كما يقول البعض، فإن واقعة الاعتداء ومظاهر العداء الذى حمله له متعصبو المالكية فى مصر ثابتة لا تقبل الطعن، وهذا أمر يشير فى جلاء إلى أن التعصب والتطرف والإرهاب لم يسلم منه حتى من يوصف بأنه إمام الوسطية الذى قال عنه الإمام أحمد بن حنبل: «كان الشافعى كالشمس للدنيا وكالعافية للبدن فهل ترى لهذين من خلف أو عنهما من عوض».
ولهذا حديث آخر.