تقوم بين الآونة والأخرى دعوات تحرض على عدم دفع فواتير كالكهرباء والمياه وتذاكر المترو والقطارات، ويا ليت هذه الدعوات تأتى بسبب ضرورة العجز عن الدفع، لكنهم يوجدون لها مسوغاً شرعياً كعادتهم فى تزييف وتأويل النصوص، وحجتهم فى ذلك أن الحاكم لا يقيم العدل، وهنا لا بد من التفرقة بين معارضة السلطة، وإسقاط الدولة، لأن المرافق العامة كالمستشفيات، والحدائق، والكهرباء، والقطارات، وغير ذلك هى مملوكة للدولة، والمستحقات عقد مبرم بينك وبين الدولة، ولذا أجمع الفقهاء على أن من أخذها بغير حق لَزمه ردها، والدولة فى الإسلام لها شخصية اعتبارية مستقلة، لا علاقة لها بالقائم عليها، وقد يقال إن فى عدم دفع الفواتير إضعافاً للدولة الظالمة، والغاية تبرر الوسيلة، وهنا يجيب العالم الفقيه الدكتور عثمان عبدالرحيم بقوله: لا يجوز الامتناع عن دفع مستحقات الدولة (إلا فى حالة العجز)، للأسباب الآتية:
أولاً: لأنه استيلاء على المال العام بغير حق، وهذا عمر بن عبدالعزيز جاءه أحد الولاة يحدثه عن أمور المسلمين، وكانوا يستضيئون بشمعة، فلما انتهى من الحديث عن أمور المسلمين، وبدأ يسأل عمر عن أحواله، قام عمر فأطفأ الشمعة، فتعجب الوالى من ذلك، فقال له عمر: كنت تسألنى عن أحوال المسلمين وكنت أستضىء بنورهم، وأما الآن فتسألنى عن حالى، فكيف أخبرك عنه على ضوء من مال المسلمين؟!
ثانياً: لأن الامتناع أكل للأموال بالباطل، وهذا حرام، حتى مع الكافر، لأن الشخص قد انتفع بها، والواجب أن يدفع ثمن ما انتفع به لمالكه أو وكيله، وقد سئلت اللجنة الدائمة للإفتاء بالسعودية: هل يجوز توقيف عداد الكهرباء فى دولة كافرة من أجل إضعافها؟ فأجابت: لا يجوز؛ لما فيه من أكل الأموال بالباطل.
ثالثاً: لحرمة الغاية التى يقصد منها هذا الفعل، فقد اتفق الفقهاء على أن الدولة لها شخصية مستقلة، ولا صلة لها بمن يقوم بحكمها، فإذا علمنا هذا تقرر بالضرورة أن الامتناع عن دفع مستحقات الدولة لن يؤدى إلى زوال النظام، ولكن سيؤدى إلى هدم الدولة، حتى وإن زال النظام -جدلاً- سيزول عن دولة مدمرة فاشلة.
بقى القول إن الامتناع وسيلة محرمة فى ذاتها، والوسيلة فى الشرع لا بد أن تكون شرعية، وإذا قال البعض إن صحة الغاية لا يلزم منها صحة الوسيلة، فذلك متوقف على ألا يكون ضرر الوسيلة المحرمة أقل من مصلحة الغاية المتحققة بها لا أكثر ولا مساوياً، وهذا غير متحقق، فمن يقول من العقلاء إن هدم اقتصاد مصر أقل مفسدة من زوال النظام القائم، أيضاً لقاعدة: الضرر لا يزال بمثله، ولا بأكبر منه، فلو أن واحداً سرق حبلاً، وربط به سفينة فى البحر، فلا يقال إن صاحب الحبل يجوز له نزع حبله، لأنه وقع عليه ضرر حتى لو غرقت السفينة!!، لأن سرقة الحبل ضرر، وإزالته هنا ضرر أكبر، وقد رأينا شعوباً تعيش فى ظل أنظمة مستبدة، ولكن لم نر شعوباً بلا دولة، والمعارضة لها أن تُسقط الحكومة، لا أن تُسقط الدولة انتقاماً من الحكومة، أيضاً قد يقول شخص أنا سأدفع ولكن بعد زوال السلطة، وهو كلام يمثل رشوة ضمير، ويفتح الباب لفتنة كبيرة، فإذا جاء الحكم للذين يريدونه سيأتى المعارضون ويمتنعون عن دفع مستحقات الدولة، ويرددون نفس الكلام، وتظل الدولة ملعبة فى أيدى الناس، فإذا رضوا دفعوا، وإذا سخطوا لم يدفعوا، كما أن التأخير سيترتب عليه تعلق الذمة، والأعمار بيدى الله.