معظم الناس يتسابقون للظهور وتقديم ذواتهم، وربما ادعاء ما ليس لهم، وعلى هذا جرت عادة الإنسان منذ كان.
لا يعنى ظهور وبروز أصحاب التيجان ولا حاملى عصى الصولجان، أنهم بالضرورة صناع المجد، ومحققو الانتصارات، ناهيك بالمعجزات.
من يتأمل فى صفحات التاريخ، ويقرأ ما بين السطور، يرى أن التاريخ من صنع البسطاء فى معظم الأحوال. هم الذين يتحملون المجاهدات ويتجلدون للصعاب، وهم الذين يدفعون الثمن، بينما القادة والسادة والرؤساء هم الذين يضعون أكاليل الغار.
إن كل ذِكْرٍ أو سُمْعة، وكل مجد بنى ويبنى أو سوف يبنى، إنما هو فى الواقع مبنى على أكتاف العديدين من البسطاء كثيرى العدد فى كل مكان وزمان.
هذا الآدمى العادى بالنسبة لسمعة المشاهير وأمجاد الماجدين هو الأرض والسماء والماء والهواء، والزرع والضرع، والكون والوجود والعدم.
الذكر المتداول بين الناس، هو ذاكرتهم والسمعة التى تملأ آذانهم، وصور الأمجاد التى يتخايل بها من يدعون صناعة المعجزات وتحقيق الأمجاد. كل مجيد أو مذكور أو مشهور، بطلاً كان أو قديساً أو ملكاً أو زعيماً أو فاتحاً أو قائداً أو عالماً أو فناناً إنما يحيا ويموت فى الناس وبالناس، وفى عقول وقلوب الناس.. هؤلاء العاديون العديدون المجهولون من تراب الأرض هم الذين يتدفق بهم نهر الحياة، الذين يحفرون مجراه كما حفر سواد المصريين بسواعدهم قناة السويس، ومات الآلاف منهم وهم يحفرون، هم الذين خطوا مجرى القناة، ولكن الخديو والحاشية، وكبار القادة والرؤساء، وعظماء مصر والعالم، هم الذين أقاموا الاحتفالات وتمتعوا بالصيت، ووضعوا على رؤوسهم أكاليل الغار.
هؤلاء الذين تذكرهم صفحات وتطير بهم الأنباء، ويمضى شهداء العمل الذين أنجزوه فى صمت وهدوء دون أن يخطّوا أسماءهم على جدار الزمن. أيضاً فإن الذين حفروا فروع النيل وشكلوا أمواجه وتياراته، لم تُكتب أسماؤهم على معابره وجسوره ومرافئه، أو على اندفاعاته وفيضاناته أو غيضه.
الإنسان العادى هو دون أن يتخايل، بل ودون أن يشعر، هو صانع الأمجاد والشهرات والتاريخ.. ولأنه يشعر بدوره هذا الهائل العظيم، فإنه لا يفهمه ولا يحاول أن يفهمه، ولا يطوف بذهنه أن يتيه أو يتفاخر بما صنعه، بينما يُطْوى دوره فى زوايا النسيان، ليتقدم الكبار لينالوا الصيت والشهرة، والمكافآت والأمجاد!!
إن طالبى المجد والذكر والشهرة؛ يركبون منذ قديم الأزل على أكتاف الإنسان العادى، ويخاطبون أحلامه وعواطفه وأمانيه ومخاوفه خطاباً عاماً من على البعد.. خالياً من الإحساس الحقيقى بما تمتلئ به أفواههم وتجرى ألسنتهم، لا يعنيهم سوى تنشيط خيال العاديين والوصول إلى قلب المتلقى وإلى استجابته استجابة المصدق المؤمن المعتقد.
ونحن قد درجنا على أن نطلق وصف «الشعبية» على من ينجح فى الاستيلاء على قلوب وعقول الكتل، وفى هذا تقوم وسائل الإعلام والإعلان بدورها الداعم كل ساعة وفى كل مكان، تمكيناً لشهرةٍ وصيتٍ ومكانة، أو ترويجاً لسلعة، أو تبريراً لأعباء تلقى على كاهل المطحونين الذين عز عليهم الغذاء والكساء، وربما السقف الذى يؤويهم.
فهمى النجار
يروى المرحوم الأستاذ يحيى حقى، خريج حقوق القاهرة دفعة 1925، وهى دفعة عزيزة علىَّ، ففيها تخرج أيضاً المرحوم أبى الأستاذ النقيب عطية عبده المحامى، والمرحوم الأستاذ توفيق الحكيم، يروى يحيى حقى فى تحفته المتميزة «خليها على الله» أنه فى ذات عام 1925، حضر فى بداية اشتغاله بالمحاماة كل جلسات الجولة الثانية لقضية مقتل السردار، وحرص على الجلوس بجوار القفص؛ والذى فيه يجلس المتهمون فى صفين: فى الصف الخلفى السياسيون والمثقفون، وعلى رأسهم أحمد ماهر و«النقراشى» جنباً لجنب، لا يكفان عن التحدث والابتسام، وفى الصف الأول جلس المتهمون البسطاء من أولاد البلد، وفى وسطهم النجار محمد فهمى، الذى دفعت ذكراه الأستاذ يحيى حقى لكتابة هذا المشهد.
على المنصة مستر «كيرشو»، رئيس الدائرة، انتزعها بضغط الإنجليز من المستشار على سالم الذى خشوا أن يكون موالياً للوفد، ومستشار اليمين الأستاذ كامل إبراهيم، واليسار المستشار على عزت، الذى ضُم إلى الدائرة لتكملتها بعد تنحى أو تنحية المستشار على سالم. وقدر الأستاذ يحيى حقى وغيره من المحامين الحاضرين أن مفتاح الدعوى فى يده، فإذا انضم إلى «كيرشو» ضعنا، وإذا انضم إلى كامل إبراهيم نجونا.
وفى جلسة الحكم، نطق به مستر «كيرشو» ببراءة جميع المتهمين ما عدا شخص واحد فقط هو النجار محمد فهمى، إذ حكم عليه بالإعدام شنقاً.
وهنا تلتقط «كاميرا» يحيى حقى مفارقات المشهد، إذ ينفجر الصراخ والتهليل والتصفيق والهتاف، ويقبّل الساسة والمثقفون بعضهم بعضاً، وتمتد الأيدى إلى «ماهر» و«النقراشى» وأعلام الصف الثانى، من فوق رؤوس البسطاء الجالسين فى الصف الأول.
استقرت عينا يحيى حقى وثبتت على وجه النجار محمد فهمى، ابن البلد، والوحيد الذى حُكم بإعدامه وحده من أجل ذات القضية الوطنية الموجهة إلى زملائه، لا من أجل السرقة أو النهب.
لا يستطيع يحيى حقى أن يقول إن وجهه شاحب أو مذهول، بل من عينيه تنبعث نظرة بلهاء لرجل حائر لا يفهم ما يرى ولا يدرى كيف يفسره!!!
لم يكلمه أحد من زملائه أولاد البلد فى الصف الأول، فهم مشغولون بالحكم ببراءتهم!! ولا التفت إليه أحد من الساسة والمثقفين الجالسين وراءه، بل تمتد كفوفهم من فوق رأسه لمصافحة الأصدقاء المباركين!!
ولم يكلمه أحد من الجمهور المنشغل بالرقص والضحك والهتاف!!!
آخر ما يذكره يحيى حقى ظهر هذا الرجل؛ وهو يغيب فى معطف أصفر ويقتاده رجل البوليس إلى وراء الباب.
رحمه الله.. ظل «حقى» يتتبع أنباءه إلى أن وافى يوم شنقه، فجدد حزنه عليه!
مفارقة أخرى لم تفت «كاميرا» يحيى حقى خروج مستر «كيرشو» من المحكمة محمولاً من الجمهور على الأعناق، وتتعالى هتافاتهم «يحيا العدل».. يحيا مستر «كيرشو».. يحيا القاضى العادل!
ولم يهتم الهاتفون بمعرفة ما الذى صنعه المستر «كيرشو» المهتوف له ولعدله، فقد ذهب لفوره إلى دار المندوب السامى ليعلنه بأن القاضيين المصريين قد أَخَلاَّ بالعدالة وحكما بالبراءة، وأنه يقدم استقالته احتجاجاً، لأنه يربأ بنفسه عن مزاملة هؤلاء القضاة!
هل يذكر أحد النجار محمد فهمى الذى أُعدم فداء للقضية الوطنية؟!!
البسطاء يموتون!
والكبار يضعون أكاليل الغار!!!