منذ بدأت رحلتى مع الكتابة الصحفية، ونظرتى الدائمة إلى مقالات الرأى باعتبارها دعوة إلى الحوار الهادف والمناقشة وتبادل الآراء حول القضايا المجتمعية التى تهم القارئ العربى بوجه عام والقارئ المصرى على وجه الخصوص. وانطلاقاً مما سبق، أحرص دائماً على قراءة تعليقات القراء والتفاعل معها تأملاً وتمحيصاً ورداً. ولا أغالى إذا قلت إننى أطالع بدقة كل التعليقات، يستوى فى ذلك ما اتفق مع آرائى وما اختلف معها، وحتى تلك التى توجه إليها انتقادات عنيفة. وفى بعض الحالات، قد أجد من الملائم مشاركة القراء الأعزاء أحد أو بعض التعليقات التى ترد لى من قراء آخرين، سواء عبر البريد الإلكترونى أو الواتس آب أو الفيس بوك أو غيرها من وسائل التواصل الأخرى. وهكذا، وفيما يتعلق بالمقال المنشور فى الأسبوع الماضى عن تجديد الخطاب الدينى بشأن دية المرأة، ورد لى تعليق من الأستاذ أحمد جلال عبدالوهاب، الذى يعمل إماماً وخطيباً بوزارة الأوقاف المصرية - مديرية الشرقية، وأجد فى هذا التعليق من العمق وإمعان الفكر ما يستدعى نشره كاملاً فى المساحة المخصصة لهذا المقال. يقول الأستاذ أحمد جلال: «يظهر لى بداية أنه لا يوجد نص يمنع من مساواة دية المرأة بدية الرجل مع ملاحظة أن هذه الزيادة حق للحاكم لما يظهر له من مصلحة. والدية فى الحقيقة وبعد تكرار نظر ليست عقوبة، وهذا ما أعتقد أنه لو ظهر لسيادتكم لتغير النظر والتعليق على ما جاء بفتوى دار الإفتاء واستدلال الفقهاء فى كتبهم، ولكنها تعويض عن الأضرار التى لحقت بأهل المجنى عليها، وليست عقوبة. ومعلوم أن التعويض مرتبط بالمنافع، أما العقاب، فغير مرتبط بالمنافع. وأن أساس قول جمهور الفقهاء بأن دية المرأة على النصف من دية الرجل فى الحقيقة هو النص الظنى والإجماع، وليس القياس إطلاقاً، وما ذكرهم للقياس فى هذا الشأن إلا استطراد لتوضيح المعنى، قد يصيب القائل به وقد يخطئ. ومعلوم أن من شروط صحة القياس ألا يكون فى معارضة نص أقوى من القياس - وهذه جزئية يطول المقام بتوضيحها ولعل الله يقدر لى معكم كلاماً بشأنها - كما أن من شروطه ألا يكون مع الفارق، وأغلب ما استدللتم به من قياس هو كذلك. وأخيراً، أود أن أقول إن القرآن لم يتكلم عن مقدار الدية، بل تكلم فقط عن مشروعيتها، تاركاً مقدار الدية التى هى فى حقيقتها تعويض وليست عقوبة للنص النبوى ورؤية جموع العلماء. وبالتالى فالاستدلال بالنص الآمر بالدية استدلال فى غير محله».
والواقع أن الفقه قد اختلف بشأن طبيعة الدية بين ثلاثة آراء، أولها، يقول بالطبيعة العقابية، وثانيها يقول بالطبيعة التعويضية، وثالثها يقول بالطبيعة المزدوجة أى عقوبة وتعويض فى آن واحد. والراجح هو أن عدم اختلاف مقدار الدية من شخص إلى آخر يستوجب القول بأنها عقوبة جنائية، لأنها قائمة على قاعدة أساسية، وهى حق كل إنسان فى الحياة بكل قواه وأعضائه، ويستوى هذا الحق بالنسبة للجميع، فهى بذلك أقرب إلى العقوبة.
وثمة تعليق من قارئ آخر، منكراً مذهب المساواة بين المرأة والرجل فى الدية، ومتسائلاً عن سبب عدم الأخذ بالحديث الذى رواه معاذ بن جبل عن النبى الكريم، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: (دية المرأة على النصف من دية الرجل). والواقع أن هذا الحديث ضعيف، فقد رواه البيهقى من طريق عبادة بن نسى، وقال: فيه ضعف. وفى موضع آخر، أشار إلى إسناد هذا الحديث، وقال: لا يثبت مثله. كذلك يلاحظ أن الآيات القرآنية تستخدم لفظى «الذكر» و«الأنثى»، ومعلوم أن لفظ «الذكر» يصدق على الطفل والبالغ والشاب والكهل ولفظ «الأنثى» يصدق على كل بنات حواء. أما لفظ «المرأة»، فلا يطلق على الطفلة، وكذلك لفظ «الرجل» لا يطلق على الطفل. وهذا وجه آخر يستدعى النظر فى مدى صحة الحديث سالف الذكر، لا سيما أن علماء الحديث قالوا بضعفه.
وفى الختام، وعلى حد قول أحد الأصدقاء الأعزاء، إن الموضوع شائك ويحتاج الأمر إلى دراسات متعمقة، وليس مجرد مقال صحفى، بحيث يتسنى إقناع المعارضين للرأى القائل بالمساواة بين المرأة والرجل فى الدية. والله من وراء القصد.