أدخلت التيارات الإسلامية الشباب فى مستنقعات تأباها قدسية الدين، ولا يخفى على المتأمل أن الأمة تراجعت حضارياً بشكل واضح، وأن التراجع السياسى للأمة فرع من تراجعها فى الموارد الاقتصادية، ومتابعة العلوم والفنون، والتقاليد الخلقية، والقيم الإنسانية، خاصة الجوانب التزكوية والتربوية، والجوانب العلمية وما اشتملت عليه من الابتكارات والاختراعات، فضلاً عن الثقافة والإبداع والأدب، والفنون التشكيلية التى تتمثل فى التحف الفنية والفنون المعمارية.. إلخ، إلا أن مشكلة دعاة التيارات الإسلامية السياسية وعلى رأسها مرجعية كبرى لها أمثال القرضاوى جعلت التراجع السياسى للأمة هو فقط أساس وسر تأخرها، وعليه فإن التغيير من وجهة نظرها يتمركز ويتبلور حول السلطة، وجعلها مركزاً ومنطلقاً لكل فروع الحضارة، ولذلك جعلوا من قضية الحكم وسقوط الإخوان أُمَّ القضايا وأساسها ومحورها، ودونها الرقاب، مع أن الحكم فى التصور الإسلامى الصحيح هو من الفروع وليس من الأصول، وهم بهذا غادروا العقل الأزهرى وحنوا إلى العقل المتسم بالحماس الطائش والصدامية والتسرع.
وهذا سمة الحصر عندهم التى تؤدى إلى تزييف الوعى الذى تتميز بها هذه التيارات، وأعنى بالحصر: حصر الإصلاح فى الحكم، وحصر الفهم فى فهمهم، وحصر علماء السلطان فى خصومهم، وحصر الإسلام فى النقاب واللحية ومسألة القبور، وحصر العلم فى مشايخهم، وحصر الإصلاح فى الجانب السياسى، وحصر الجهاد فى مقاومة الحاكم، وحصر المنافقين فى خصومهم، وهكذا، فوقع خلل فى ترتيب الأولويات ترتبت عليه آثار خطيرة.
ومن هذه الآثار تقديم الفقه بنزعة ثورية، لخدمة توجهات سياسية، وتغليب العقل السياسى على العقل الفقهى العلمى، سواء على مستوى النظرية أو الممارسة، وهذا ما فعله القرضاوى مثلاً حين مضى وراء سيرته بماسِحةٍ تُزيل ما سبق له من علمٍ وفَضْل، ونسف تماماً العقود السابقة من حياته، وبات عدواً لنفسه، وعدواً لوطنه، وعبئاً على الدين والدنيا بعد أن كان عنواناً للوسطية والاعتدال، لقد استثمروا رأسمالهم الدينى فى خدمة مشروعهم السياسى، وكأن الإسلام توقف حتى يعود الإخوان للسلطة مرة أخرى، حتى إن ضاع الوطن والدين وضاعت الجماعة نفسها، ودخلوا معركة بلا طائل، وحدث شرخ نفسى للأتباع راجع إلى الشرخ العنيف والهزة العميقة التى تعرضوا لها نتيجة التزييف فى عدم ترتيبات الأولويات.
ومن آثار هذا الخلل أن ينتهى عمر الشخص فى خصومة وصدام مع الجميع، ومن ثَمَّ فهو أبعد ما يكون عن إصلاح القلوب وتهذيب النفوس، ويظل كل همه محصوراً فى أن يقتنع الناس بضرورة إيصاله إلى سدة الحكم والقيادة، وبوسعك أن تلاحظ أن أكثر الدعاة الإسلاميين قد أصيبوا بعدوى الحزبيين، فانظر كيف تنقطع الجسور بين هؤلاء الدعاة والناس، فكيف وبأى دافع تتهيأ الأنظمة أو النفوس للإصغاء إلى دعوة هؤلاء الإسلاميين؟.
وهذا هو الفارق بين عالم الدين المتجرد لقضايا دينه وأمته ووطنه، وعالم الدين المنحاز لتنظيمه ومصالح تياره وجماعته المحدودة الضيقة، فارق بين رجل أدخل تياره وما يمثله فى مأزق تاريخى غير مسبوق، بل انتقص مكانة الإسلام بإدخاله فى معارك وصراعات لا تخصه، فأدى ذلك إلى تقليص سلطان الإسلام الروحى والدعوى بعد الترويج بأنه سقط سياسياً وحزبياً على يد جماعة أو تنظيم، قد غدت علاقته علاقة تنافس سياسى، وبين عالم يتجه للتربية والبناء وتشكيل الوعى، وتحريك القلوب نحو الإقبال على ربها، وهو ليس بمعزل عن الدنيا وما يحدث فيها، لكنه يبنى الأمة وينهض بها، من خلال قدرته على اكتشاف مواضع الخلل ومعرفة أولويات الإصلاح.