تقديرى أن «محمود الخطيب»، بيبو، هو أفضل وأمهر و«أحرف» مصرى لمس كرة القدم بشكل رسمى، لا أتحدث عن كثرة عدد الأهداف، فعلى الرغم من أن الخطيب هو أحد أعضاء نادى أصحاب المائة هدف بالدورى المصرى، لكن هذا الموضوع ثانوى جداً ولا يجب أن ينشغل به أى محلل كثيراً، فيمكن للاعب متوسط الموهبة إحراز عشرة أهداف فى دفاعات المنتخب الصومالى مثلاً، الموضوع أكثر عمقاً من مجرد رقم خادع، نحتاج لمعرفة سياقات هذه الأرقام.
وعلى الرغم من الموهبة الكبرى، والأهداف العبقرية التى أحرزها «بيبو»، فليس له ذكر كبير على الساحة العالمية.. عدم اللعب والتأثير فى كأس العالم هو أحد عوامل عدم شهرة أى لاعب، لكن «بيبو» موهبة كان يمكن أن تفرض نفسها عالمياً دون اللعب فى كأس العالم، مثل الكثيرين ممن فعلوا ذلك، لكن مشكلة الخطيب لخصها الراحل «صالح سليم» فى جملة قالها له وهى: «مشكلتك إنك لم تعبر البحر».. العبقرى «صالح سليم» لخص الموضوع ببراعة، بيبو لم يعبر البحر المتوسط ليلعب فى أوروبا، حيث الأضواء والشهرة. وهذه النقطة الجوهرية هى فى صميم العوامل التى تجعل دول الشمال الأفريقى لها ميزة تنافسية أكبر من مصر، فهم أقرب جعرافياً لأوروبا، وأقرب لها ثقافياً، وهذا هو الأهم، اندماج لاعب تونسى أو مغربى أو جزائرى فى أوروبا، يشبه انتقال أحد المصريين من حى «محرم بك» بالإسكندرية إلى حى «شبرا» بالقاهرة مثلاً.. ليست هناك صدمات حضارية عنيفة أو فجوات ثقافية موحشة.
بالمناسبة، ففى الحوارى المصرية وفى القرى والنجوع، كان وما زال وسيكون هناك من هم أفضل من «بيبو»، لكن أحداً لم يكتشفهم، وهى ثغرة بائسة، تمنع مصر من أن تصبح كروياً مثل إحدى دول أمريكا الجنوبية مثلاً، فى كثرة عدد لاعبيها المهرة، والأمر بالطبع تحكمه أمور أخرى كثيرة: اجتماعية واقتصادية وصحية، ولكن هذا موضوع يطول شرحه.
داخل مصر، لدينا انتقال آخر، يمنع الموهوبين من الظهور وأخذ ما يستحقونه، وهو الانتقال إلى العاصمة.. ما لم يأتِ المصرى إلى القاهرة، فسيعيش ويموت مقدماً موهبته لمجتمعه المحلى دون أن يسمع عنه أحد.. غنت المطربة الشعبية السكندرية الموهوبة «بدرية السيد» عشرات السنوات فى الإسكندرية، ولم يبق من تراثها الزاخر للغاية إلا جملتها الشهيرة: «طلعت فوق السطوح أنده على طيرى».. وحتى أغنيتها الشهيرة تلك، أصبحت شهيرة لأنها قُدمت فى أحد الأفلام السينمائية.
حتى الفنانين العرب، ما لم يأتِ الواحد منهم إلى القاهرة ويستقر لفترة، فسيُكتب عليه ألا يُعرف عربياً.. القاهرة مدينة متسلطة متوحشة، والقاعدة أنها لا تأتى لأحد.. لكن الواقع أن هناك استثناءات بسيطة تؤكد القاعدة، فقد أتت القاهرة بنفسها مرتين فقط لا غير، الأولى للسيدة «نهاد وديع حداد» التى نعرفها جميعاً باسم «فيروز»، صاحبة الصوت الذهبى، والتى رفضت أن تغادر لبنان الشقيق، فأتت لها القاهرة لموهبتها الطاغية.. والمرة الثانية كانت من نصيب الكاتب الساخر «جلال عامر»، الذى امتنع عن الانتقال للعاصمة، وتمسك بالبقاء فى عروس البحر المتوسط لآخر يوم فى عمره، ومع ذلك أتت إليه القاهرة، وعرفته مصر كلها، ومنها عرفه الناطقون باللغة العربية حول العالم.. رحم الله الجميع.