يسود اعتقاد بين بعض مؤرخى الحروب أن أول استخدام لـ«الحرب غير المتماثلة» Asymmetric Warfare كان فى العام 212 قبل الميلاد، حين هاجم الجنود الرومان مدينة «سرقوسة»، الواقعة فى جزيرة «صقلية»، بأسطول ضخم، فما كان من أرشميدس، عالم الفيزياء والرياضيات والفلك الشهير، إلا أن انضم للمقاومة للدفاع عن مدينته.
لم يكن أرشميدس جنرالاً بطبيعة الحال، بل إنه لم يكن قد سبق له أن مارس أى نوع من أنواع القتال، ومع ذلك، فقد أوقع أكبر الخسائر فى صفوف الرومان، حين استطاع أن يستخدم ألواحاً عاكسة، وضعها فى أماكن مختارة، بحيث أمكنها أن تعكس أشعة الشمس بكثافة شديدة، مستهدفة نقاطاً محددة فى سفن الأسطول الرومانى، وهو الأمر الذى أدى إلى اشتعال الحرائق فيها.
لقد كان استخدام الخيول المدرعة حدثاً مفصلياً فى تاريخ الحروب، كما كان استخدام العربة الحربية إيذاناً بعصر جديد من عصور القتال، خصوصاً بعدما حسم معارك مؤثرة غيرت مسار التاريخ.
وفى عام 1520، كان اختراع البندقية الإسبانية إيذاناً بتغير جوهرى فى أساليب القتال، وحين شاركت الدبابة فى أولى العمليات الميدانية فى عام 1916، اضطر القادة والمخططون إلى إجراء تغييرات جوهرية على خططهم ووسائلهم، وهو الأمر الذى ما لبث أن تعرض لهزة كبيرة بمجرد مشاركة الطائرة فى الحروب بحلول عام 1918، حين كانت الحرب العالمية الأولى تشرف على النهاية.
وفى 6 أغسطس من عام 1945، حُبست أنفاس العالم، حين تم قصف مدينة هيروشيما اليابانية بالقنبلة الذرية، وهو الحدث الذى ظن كثيرون أنه بمنزلة نهاية مبكرة لـ«قصة الحرب»، لكن ما لبثت الحرب التكنولوجية أن استأثرت باهتمام بحثى كبير، خصوصاً بعد بروز دور الهجمات الإلكترونية فى الصراعات المعاصرة.
يشير استعراض تاريخ الصراعات والحروب إلى أن «اللاتماثل» ظل أحد أهم عناصر كسب المعارك عبر التاريخ، ولا يمكن إدراك فكرة «اللاتماثل» فى الصراعات المسلحة إلا بتخيل مشهد جيشين يصطف جنود أحدهما، فوق الجياد، حاملين سيوفاً ودروعاً ثقيلة، فيما يقصفهم الجيش الآخر بالمدفعية والرشاشات السريعة، فيحصدهم حصداً.
يختلف كثيرون فى منشأ مصطلح «الحرب اللامتماثلة»، لكن يبدو أن أول تعبير متماسك عنها ورد فى بحث نشره «أندرو ماك» فى دورية «السياسات العالمية»، فى عام 1975، تحت عنوان: «لماذا تخسر الأمم الكبيرة الحروب الصغيرة؟ سياسات الصراعات اللامتماثلة».
فـ«الحرب اللامتماثلة» تقوم على استنزاف الأمة/ الدولة الكبيرة، وتفتيت قدرتها على الفعل الصلب القوى، عبر استدراجها إلى منازلات محدودة ومتعددة، بغرض إرهاقها، وسلبها تركيزها، وإذلالها إذا أمكن.
واستناداً إلى ذلك، يؤكد المحلل الاستراتيجى الأمريكى «وليام ليند» على مفهوم «اللامركزية» فيما يتعلق بـ«الحرب اللامتماثلة»، فيصفها بأنها «صراع يتميز بعدم المركزية وعدم التماثل بين الأسس والعناصر المتحاربة».
ويتمثل مفهوم «عدم المركزية»، فى مقاربة «ليند»، فى وضعية التمركز واختيار الجبهة، أما عدم التماثل فيتعلق بالمعدات والأسلحة المستخدمة.
يرى باحثون أن مفهوم «الحرب اللامتماثلة» (يسميها البعض حروب الجيل الرابع) أسطورى، وليس له وجود فى الواقع، ويدفع آخرون بأنه «اختراع أمريكى لتبرير العجز فى مواجهة الحركات الراديكالية».
إن هذه الدفوع بائسة، ومعظمها يتجاهل الحقائق الساطعة على الأرض، فلم تكن أحداث 11 سبتمبر 2001 سوى برهان على نجاعة «الحرب اللامتماثلة» وفاعليتها.
وفى هذا الصدد، يؤكد الباحث المرموق فرنسيس فوكوياما أن العالم قد تغير بعد سقوط برجى «مانهاتن» (الذى حدث باستخدام إحدى وسائل الحرب اللامتماثلة)، بعدما رأى أن التحدى الرئيس للعالم بعد هذا السقوط، سيتمثل فى مواجهة اضمحلال الدول، عبر «نزعات طوباوية»، تجلب كوارث ونكبات.
فى محاضرة مهمة ألقاها البروفيسور الأمريكى «ماكس مانوارينج»، فى عام 2012، نصح الرجل القادة العسكريين الغربيين مباشرة بتبنى مفهوم «الحرب اللامتماثلة»، قائلاً بوضوح: «إن تبنى سياسات (الحرب اللامتماثلة) على مدى طويل، وتنفيذها تدريجياً بدأب، سيقود العدو إلى أن يستيقظ يوماً ما فيجد نفسه ميتاً».
وببساطة شديدة، فإن وسائل «الحرب اللامتماثلة» هى الاعتماد على «العدو» لتدمير نفسه؛ إذ سيبقى المقاتلون المتمردون والإرهابيون مندسين بين صفوف المواطنين، وسيخرجون ليضربوا القوات النظامية، ثم يعودون إلى «حضن الجمهور»، ليختفوا قبل أن يخرجوا من جديد.
سيتم استنزاف الدولة وجرها إلى مواجهات خاطفة، وسيتم تصوير أفراد القوات النظامية وهم صرعى أو أسرى فى أوضاع مهينة ومذلة، وسيترافق هذا مع إطلاق حملات إعلامية لترويع عائلات الجنود والمسئولين، وستشيع وسائط التواصل الاجتماعى أجواء من السخرية الحادة من كل ما هو رسمى ووطنى.
سيترافق هذا مع استهداف منهجى للمرافق الحيوية، وضغوط دولية لتشويه السمعة، وتعثر فى الوفاء بالاستحقاقات المالية الداخلية والخارجية، وإشاعة لليأس.
وفى خضم كل هذه الخسائر، ستنجح قوى ميليشياوية متفرقة فى السيطرة على جيوب صغيرة وإخراجها من تحت سلطة الدولة، وستزرع أعلامها عليها، فيما ستُغل المنظمات الدولية والإعلام المتواطئ يد الحكومات، وستطالبها حتى باستخدام «الرأفة والرقة» فى التعامل مع الإرهاب.
تختلف «الحرب اللامتماثلة» عن الحروب التقليدية فى عدد من العناصر؛ منها ما يلى:
الجبهة: جبهة «الحرب اللامتماثلة» واسعة ومتعددة على عكس الحروب التقليدية التى يتم تعيين الجبهة فيها بإحداثيات دقيقة.
التوقيت: الحرب التقليدية محدودة بفترة زمنية، إذ يصعب جداً تمديد زمن الحرب لأن تكلفتها عالية، لكن «الحرب اللامتماثلة» ليس لها توقيت معين، إذ يمكن أن تستمر لعقد كامل.
الغاية: غاية الحرب التقليدية هى دحر العدو وكسر إرادته وفرض الشروط عليه، لكن غاية الحرب «اللامتماثلة» مختلفة، ويمكن أن تكون «إنهاك العدو» فقط، ويمكن أن تتسع لتصبح «إنهاء العدو».
الوسائل: وسائل الحرب التقليدية معروفة، ومعظمها من معدات الحرب وأسلحتها، أما «الحرب اللامتماثلة» فيمكن أن تكون وسائلها البنية الأساسية، أو مواقع التواصل الاجتماعى، أو وسائل المواصلات، أو العدو نفسه.
لا يمكن للدولة الوطنية مواجهة مخاطر «الحرب اللامتماثلة» إلا بتحليل عناصرها وأدواتها، وتلك الأدوات باتت من الاتساع والتكامل لدرجة أنها تشمل الحروب التكنولوجية، والبيولوجية، والعمليات الإرهابية، وحرب العصابات، وأنشطة التواصل، وبث الدعايات، وحرف الرأى العام.