أكبر إشكالية تواجه الوطن العربى عامة، ومصر خاصة فى الوقت الراهن، هى الإجابة عن سؤال مُلح وحاسم: هل الثورات تصلح فى أمتنا العربية؟! وهل ثورات الربيع العربى أفادت أوطاننا أم أضرت بها؟
وهل الثورات التى قامت فى بلادنا بدءاً بثورة 23 يوليو على الملكية فى مصر، وثورة اليساريين والاشتراكيين على الملك فيصل فى العراق؟.. وثورة القذافى على الملك سنوسى أفادت هذه البلاد، أم أتت برؤساء جمهوريين أشد وأقسى؟.. وبعضهم أراد أن يورث ذريته، مثل مبارك والقذافى وصدام وعبدالله صالح.. ليصنع كوكتيلاً غريباً بين الملكية والجمهورية.. كما صنعوا كوكتيلاً عجيباً بين الاشتراكية الشكلية وتبذير ثروات الأمم فى مغامرات طائشة لم تجنِ منها بلادهم شيئاً.. ولم تحقق ثوراتهم لا العدل السياسى ولا الديمقراطية ولا الحرية.. قد تكون حققت العدل الاجتماعى.. لكنه تمّ على حساب الحرية والديمقراطية.
وهل نجاح الثورة الفرنسية أو الثورات البرتغالية فى أوروبا الشرقية تعنى نجاح مثيلاتها فى وطننا العربى؟
ويليه السؤال الآتى:
هل تحتاج أوطاننا العربية أكثر إلى الشاب الثائر أم إلى المصلح؟
وهل دعوة الرسل كانت أقرب إلى ثورة الثوار أم إلى إصلاح المصلحين؟.. وما الفرق بين الثائر والمصلح؟
لقد كنت فى بداية حياتى ثائراً متحمّساً يريد أن يُغمض عينه ثم يفتحها، فيرى كل شىء قد تغير إلى الأفضل.. وعمر بن الخطاب قد جاء إلى دنيانا ليحكم بين الناس بالحق والعدل.. ويسير بين الناس دون أن يخاف غدرهم وخيانتهم ويحق الحق ويبطل الباطل فى عجلة خطيرة تتجاوز سنن الله فى كونه وخلقه، ثم دار الزمان دورته، وظللت سنوات أفكر وأفكر، فوجدت أن سنن الله فى كونه وخلقه لا تحابى أحداً ولا تجامل أحداً، فمن اصطدم بها كُسر رأسه حتى لو كان مؤمناً صالحاً، ومن تعايش معها وسار فى كوكبها وتصالح معها نجح وأفلح، حتى إن كان كافراً فاجراً.. ووجدت أن الله لا يُعجل لعجلة أحد من خلقه، خاصة من الشباب «وخُلق الإنسان عجولاً».
لقد تأملت كل نتائج الثورات فى عالمنا العربى منذ الخمسينات وحتى ثورات الربيع العربى، فوجدت أكثرها قد زاد بلاده رهقاً وعسفاً وظلماً وتخلفاً وتأخراً وديكتاتورية وتقسيماً.
صحيح أن الدولة الوطنية العربية عادة ما تصيبها آفات العسف والظلم والفساد والبغى والرشوة والديكتاتورية.. لكن الجماعات والميليشيات المسلحة التى حلت محل الدول فى ليبيا والعراق واليمن وسوريا وغيرها أشد بغياً وأقل عقلاً وأكثر تعطّشاً للدماء، وأقل حكمة وحلماً وأكثر ديكتاتورية.. وليس لها فى ظلمها وعسفها ضابط ولا رابط.
نعم.. كان فى الدولة الوطنية العربية فساد ورشوة ومحسوبية وظلم.. لكنه معروف ومحدد وموجه.. ولكن ظلم الميليشيات والجماعات المسلحة لا ضابط له ولا رابط.. ولا جهة ولا حدود.. ولا راد له أو صاد.. ولا سبب ولا علة.
ومعظم الدول التى قامت فيها ثورات، قسّم أهلها نفسياً أو فكرياً أو مذهبياً أو عرقياً أو دينياً أكثر من ذى قبل.. وقسمت بلادهم جغرافياً، فثورة يوليو شطرت مصر شطرين هما مصر والسودان.. وثورة البشير قسمت السودان إلى شمالى وجنوبى.. مروراً بثورات الربيع العربى التى قسمت ليبيا إلى دويلات وأقاليم، والله أعلم متى تعود لوحدتها.
فهل اليمن أصبح سعيداً بعد ثورته أم تدهور كل شىء فيه؟!.. وأصبح اليمنى لا يأمن الخروج من بيته.. وغابت الدولة تماماً.. فلا رئيس ولا حكومة ولا جيش ولا شرطة ولا تعليم ولا صحة.. والميليشيات وأسلحتها ومظالمها وتفجيراتها تطال كل شىء ودون ضابط ولا رابط.. لقد أصبح اليمن هباءً منثوراً، فلا حكومة ولا جيش ولا شرطة ولا تعليم ولا صحة، بل ميليشيات وتفجيرات ومال سياسى محرّم إقليمياً ودولياً يوزع عليها من هنا وهناك.. وتبعية من ميليشياتها لقوة خارجية وإقليمية تعبث بها وتضع لها أجنداتها، وسيقسم اليمن إلى ثلاثة أقسام، شاء أهله أم أبوا.
وهل خففت الثورة السورية من ظلم «بشار»، أم زادته ظلماً وعسفاً وبغياً؟ وأضيف إليه بغى وظلم وتكفير وذبح الجماعات والميليشيات المتعاكسة المضادة.
كان «بشار» يظلم العشرات، فظلم الآلاف بعد الثورة.. كان يقتل العشرات، فقتل عشرات الآلاف.. كان يطرد العشرات من سوريا فطرد ثلاثة ملايين سورى من سوريا، فأصبح بعضهم الآن يتكفّف الناس ويتسول عند أبواب المسجد، بعد أن كان الشعب السورى من أرقى الشعوب وأغناها.
وبالمنطق نفسه نسأل: هل ليبيا بعد ثورة القذافى ورفاقه على الملك إدريس السنوسى الرجل الصالح الصوفى الزاهد أفضل منها قبلها أم ماذا؟
وهل الملازم القذافى صاحب الـ27 عاماً الذى يعانى من كل آفات الظلم والبغى وربع الأمراض النفسية أفضل من الملك السنوسى، الذى كان ينحدر من أسرة صالحة طيبة متديّنة لم تعرف البغى ولا العسف، ولها تاريخ جهادى عظيم كشأن الصوفية المعتدلة فى بلاد أفريقيا والمغرب العربى؟!
تُرى لو ظلت ليبيا ملكية ولم يطأ عرشها ملازم شاب مجنون أخرق مخبول مثل القذافى التى حكمها 40 عاماً كاملة بلا انقطاع وكان يريد توريث ابنه ليصنع مثل غيره خلطة عجيبة مجنونة من الجمهورية والملكية تترك مميزاتهما وتأخذ سلبياتهما.. أما كانت ليبيا اليوم أغنى وآمن وأعز الدول الملكية فى المنطقة العربية؟!
ثم دار الزمان دورته.. فثار الناس على «القذافى» وتحطم جيشه الشعبى ودمّرت ليبيا كلها، وعاثت فيها الميليشيات فساداً فى الأرض.
فهل ليبيا الآن بعد ثورتها على «القذافى» صارت أفضل وأحسن.. أم أن كل شىء ضاع فيها، وأصبحت الآن تئن تحت حكم الميليشيات ولا يستطيع الليبى أن يغادر بيته إلا بمغامرة أشبه بركوب البحر؟
وهل العراق بعد ثورة اليساريين على الملك فيصل الأول أفضل أم لا؟!
لقد قامت الثورة ضد الملك فيصل الأول وقام الثوار باقتحام القصر وقتل الملك وكل أسرته بمن فيهم النساء والأطفال.. وقام الثوار اليساريون والاشتراكيون بسحل رئيس الوزراء، ثم تبادل الثوار النشامى كراسى الحكم وانقلب بعضهم على بعض ليصل «صدام» إلى الحكم ويدخل العراق فى دوامة حروب لا تنتهى.. فيحارب إيران دون مبرر 8 سنوات.. ويغزو الكويت التى ساندته سنوات، غادراً بها.. ويقصف الأكراد من شعبه بالأسلحة الكيماوية.. وفى النهاية يبقى فى الحكم كغيره من الرؤساء أعواماً طويلة أكثر من بقاء الملوك فى الحكم.. ثم يريد توريث الحكم إلى ولده؟.. فلماذا كانت الثورة على الملكية إذاً؟!
ولك أن تقارن العراق ذات الموارد الهائلة التى أضاعها حكامها بغيرها من الملكيات حولها التى لا تملك عُشر مواردها، مثل الأردن والمغرب والسعودية والكويت.. لتعلم مدى الكارثة التى حاطت بالعراق.
ثم دارت الأيام وخلع الشيعة مع المحتل الأمريكى «صدام» وحزبه فأوصلوا العراق إلى حال أسوأ بكثير من عهد «صدام».. لقد هلل الناس وفرحوا بإزاحة الطاغية صدام ليأتى مائة طاغية وطاغية فى كل شارع وحى يذبح ويقتل ويفجر المساجد من ميليشيات شيعية وتكفيرية مثل «القاعدة وداعش والمهدى وبدر وعصائب أهل الحق».. فلا خير فى هؤلاء ولا هؤلاء.. فكلهم يسفك الدماء وكأنه يشرب القهوة.
وحتى ثورة 23 يوليو التى جاءت أساساً لمعالجة الفقر والعوز وتحرير فلسطين وعدم تكرار هزيمة 1948م.. لم تحقق سوى هدفين: العدالة الاجتماعية والتحرر الوطنى المؤقت.. والآن على العرب أن يتوقفوا، ليسألوا أنفسهم بصراحة وصدق وتجرد:
هل طريق الثورات أعظم.. أم طريق الإصلاح؟
وهل التغيير الشامل والهدم الكامل للأنظمة مهما كانت سلبياتها يحقق الصلاح والخير ويحفظ البلاد والعباد ويحقن الدماء ويحافظ على مؤسسات الدولة ويطورها إلى الأحسن فى بلادنا العربية.. أم أنه يؤدى عادة إلى الفوضى العارمة وتقسيم البلاد والفراغ السياسى والاقتصادى والأمنى؟
وهل ما نجحت فى فرنسا وأوروبا الشرقية بالضرورة ستنجح فى بلادنا؟
وهل كل طبخة تعطى لكل البطون الأذواق؟
وهل كل دواء يوصف لكل المرضى وجميع العلل؟
وهل الثورات أفضل أم الإصلاح؟
وهل قلب كل شىء وتدمير كل شىء، ثم إعادة بنائه بالثورات أفضل، أم التغيير بالإصلاح الهادئ المتدرج؟
وهل الثائر أكثر فائدة فى بلادنا أم المصلح؟
وهل بلادنا العربية بالذات تنضج وتعقل وتنضبط ويقل ظلمها وبغيها وسرقاتها وفسادها وتوريثها للوظائف بعد الثورات.. أم يحدث ذلك أفضل وأيسر وأقل تكلفة ودماء بمجهود المصلحين جيلاً وراء جيل؟!
هذه أسئلة لا أزعم امتلاك الأجوبة عنها.. لكنى أدعو الجميع إلى تفعيل فقه «المصالح والمفاسد».. وفقه «المآلات والنتائج» على كل الثورات الماضية، وهما يمثلان فى السياسة والتجارة «فقه الجدوى» وفى العسكرية «فقه تقدير الموقف» قبل وبعد الثورات.. لنصل إلى ما يناسب بلادنا وأمتنا ويتلاءم مع ظروفنا وأحوالنا.