جرت من سنين، مجرى الأمثال، آبدة عامية تقول:
«العند يورِّث الكفر».. واستقر المثل فى أخلاد الناس دون أن يفتشوا عن أسبابه.. وأسبابه قديمة فى تاريخ البشرية، ففى هذا التاريخ الموغل فى القدم، كان العناد هو الركن الركين فى تمسك الأقدمين بالكفر، وصدهم عن سبيل الله، ومقاومة جميع الأنبياء والرسل محتجين عناداً بما وجدوا عليه آباءهم، غارقين محاصرين أنفسهم بهذا العناد الذى أطلقت عليه سلفاً: «شرنقة الاعتياد»!!!
كان «العناد» هو إذاً المدخل لإغلاق وإيصاد العقول بالضبة والمفتاح أمام دعوات الرسل والأنبياء.. وحينما يوصد الإنسان عقله، فإنه يتسلح بالعناد، والمعاندة، واشتهرت بذلك فرقة من السوفسطائية تسمى «العنادية».. ينكرون حقائق الأشياء، ويزعمون أنها وهم وخيال باطل.. ذلك أن من يوصد عقله لا يرى فى ذلك الإيصاد شيئاً ولا يجد فيه غرابة، فقد أغلق العقل الذى كان يمكن أن يطلعه على ما يميز به بين الصواب والخطأ!
كتبت من ثلاثة عشر عاماً فى كتاب «الأديان والزمن والناس» الصادر بكتاب الهلال العدد 669 فى سبتمبر 2006:
يعرف دعاة الإصلاح، مثلما يعرف علماء النفس والاجتماع، والمتأملون فى أحوال الإنسان أن شرنقة العادة أو الاعتياد، هى الجدار العالى الذى تتكسر عنده محاولات الآدمى منذ كان للهداية أو الإصلاح أو الترقى أو التغيير أو التطوير، وأن هذه الآفة آفة أو شرنقة الاعتياد هى أعوص ما تواجهه دعوات أو حركات أو محاولات أو رغائب الهداية أو التنوير أو الإصلاح أو الترقى أو التغيير، للفرد أو للجماعات أياً كان شكلها أو نظامها أو أحوالها!!!
وسلطان العادة أو الاعتياد، غير ظاهرة «التكرار والإعادة» التى تكاد تنطبع بها حياة الآدمى منذ كان.. فحياة الآدمى منذ تخليقه جنيناً فى الأرحام، يرد عليها التكرار والإعادة، فى حركات الآدمى وفى سكناته.. الواعية وغير الواعية، وهو خضوع لا يخلو من الفائدة لأن إليه الضبط النسبى لمعدل نمونا المناسب بدنياً وعاطفياً وعقلياً. ذلك أنه يستحيل أن تستمر حياة أى حىّ إنساناً كان أو حيواناً أو نباتاً دون الإذعان لناموس «التكرار والإعادة».. وهو ناموس يبدو مطلقاً قاسياً فى الحيوان وفى النبات، ولكنه مع مرور الزمن يصير نسبياً فى البشر لأنه تنمو فيه مرونته وتخف تبعاً لذلك سيطرته وتتكاثر فيه الثغرات التى ينفذ منها نشاط العقل النامى المتطلع المتوثب الطامح إذا تيقظ إلى المزيد ومزيد المزيد من اتساع الرؤية والفهم وصحتهما.. على أن إيجابية ناتج «التكرار والإعادة».. لا تنجو من جانب مأساوى حين يسيطر هذا الناموس على كل مصدقات وتقاليد وعادات وأساليب ومشارب وقيم ومثل وآمال وأمانى البشر، وحين يهيمن على طرق التفكير والتصور والفهم والرؤية والإدراك والتمييز بين الصواب وغير الصواب، سواء فى اختيارات الناس أو معارفهم أو آدابهم أو فنونهم أو أخلاقهم أو مذاهبهم بشتى أنواعها وألوانها!.. وإلى هذا الجانب المأساوى ترجع معظم الأخطاء والفظائع والحماقات والمعارك الفردية والجماعية، وبسببها تقع أغلب الأزمات والفتن والكوارث والنكبات والحروب، ويتشكل الجانب المعتم الحزين فى معظم ماضى وحاضر البشر، لأن «التكرار والإعادة» كما يتسببان فى تقوية حفظ الحافظ وفهم الفاهم، وأدب الأديب، وفصاحة الفصيح، وحب المحب، ومحاسن الحسن، وعطف العطوف، وصدق الصادق، ووطنية الوطنى، وصلاح الصالح، وإيمان المؤمن، وفطانة الفطن، وعفة العفيف، وأمانة الأمين، وصبر الصابر، وشفقة الشفيق، فإنهما يتسببان أيضاً، «التكرار والإعادة»، فى تقوية وتحكم الشعور بأضداد ما تقدم كله، فتقوى أو تتحكم أو تستحكم صلابة المتصلب، وجمود المتجمد، وقسوة القاسى، وصعوبة الصعب، وقبح القبيح، ونكران المنكر، وجشع الجشع، وخطورة الخطر، وخيانة الخائن، وحقد الحاقد، وإجرام المجرم، وتهور المتهور، واندفاع المندفع، ورعونة الأرعن، وأذى المؤذى، وضراوة الضارى، وحمق الأحمق، وقفر المقفر، وإجداب المجدب.. لأنه مع تكرار هذا أو ذاك وإعادته يغور ويقوى ويتمكن ويشتد فى اللاوعى وفى الوعى، وينزرع فى النسيج والطباع، وإلى ذلك ترجع الشرور والآثام التى تذوى وتنحدر بها أحوال الجماعات مع مرور الزمن!!!.
من كل هذا يتشكل العناد الذى يخلد به الآدمى لما اعتاده، ويرفض به كل ما يدعوه إلى إعمال الفكر والنظر أو الخروج عما اعتنقه وتصلب عليه مهما كان ظاهر الفساد والبطلان.. وقد ضرب القرآن المجيد مثلاً لهؤلاء الغارقين فى العناد قوم إبراهيم، عليه السلام، حين دعاهم إلى عبادة ربه، وتساءل متعجباً عما يعبدون من دونه، فقالوا له قولاً عجباً.. جاء عنه فى القرآن المجيد: «وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ» (الشعراء 69 - 73).
ألقى عليهم إبراهيم، عليه السلام، هذا السؤال القارع.. هل هذه الأصنام تسمع دعاءهم، أو تنفعهم أو تضرهم؟! ومع ذلك لم يفقهوا هذا السؤال القارع المنبه، فأجابوا بما لا يرد على ذهن عاقل.. قالوا لإبراهيم: «بَلْ وَجَدْنَا آبَاءنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ» (الشعراء 74).
وهذا الاستشهاد السقيم ورد على لسان كل الكافرين الذين أنكروا ما جاءهم به الرسل والأنبياء، وهو اللوذ والارتياح لما كان يعبده الآباء والأجداد، فقد ألفوا ذلك واعتادوه، دون أن تقتضيهم «العادة» جهداً ولا عناءً ولا تفكيراً.. فما وجدوه درجوا عليه، وأنزلوه لديهم منزلة العقيدة، واطمأنوا إليه على ما فيه من تهافت وضلال واضح.. العناد واعتياد الكفر هو التميمة أو الشرنقة التى جمعت جميع الكافرين فى صدهم للأنبياء والرسل فى كل عصر.. وكأنهم كانوا جميعاً ينطقون بلسان واحد، وعلى نسق واحد، ووتيرة واحدة، وعلى إيقاع واحد يجمع خيوطه على اختلاف الأقوام والعصور والأزمان، إلف هؤلاء وأولاء واعتيادهم وجمودهم وتقديسهم الضرير وتمسكهم بما ألفوا ووجدوا عليه آباءهم وأجدادهم.. لا يجدون فى هذا الجمود إلاّ الحق ولا حق سواه، وغيره باطل لا صحة ولا سداد فيه!!! لذلك ألقى عليهم إبراهيم، عليه السلام، ملاحظته القارعة الثانية، فقال لهم فيما يرويه القرآن: «قَالَ أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّى إِلاّ رَبَّ الْعَالَمِينَ» (الشعراء 75 - 77).. ثم يستأنف إبراهيم لبيان ما تطمئن إليه العقول والأفئدة، فيقول لهم عطفاً على تذكيرهم برب العالمين: «الَّذِى خَلَقَنِى فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِى هُوَ يُطْعِمُنِى وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وَالَّذِى يُمِيتُنِى ثُمَّ يُحْيِينِ» (الشعراء 78 - 81).. هذا التذكير يحمل إلى جوار البيان الحجة التى توقظ العقول من سباتها، وتلفت بالمقارنة إلى الفارق بين الأصنام التى لا تسمع ولا تضر ولا تنفع، وبين آيات القدرة الإلهية الدالة على مقام الألوهية وعظمة الوحدانية.. فهو سبحانه وتعالى الذى يهدى ويطعم عباده ويسقيهم، ويشفى عليلهم ومرضاهم، وهو جل وعلا الذى يميت ويحيى. إلى رب العالمين يتجه إبراهيم بعد هذا البيان سائلاً إياه المغفرة على خطاياه، والدعاء بأن يهبه سبحانه الحكمة، وأن يلحقه تبارك وتعالى بالصالحين.. «وَالَّذِى أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى خَطِيئَتِى يَوْمَ الدِّينِ رَبِّ هَبْ لِى حُكْماً وَأَلْحِقْنِى بِالصَّالِحِينَ وَاجْعَل لِّى لِسَانَ صِدْقٍ فِى الآخِرِينَ وَاجْعَلْنِى مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ» (الشعراء 81 - 86).. ثم لا يفوته أن يطلب لأبيه المغفرة لأنه ضل لا يعى ولا يعقل ولا يفهم!!