فى مائدة مستديرة، جمعت ستة من المهتمين بقضايا حقوق الإنسان، طرحت من جانبى تساؤلات عن مغزى الدعوة إلى الفوضى، من تحت المظلة الحقوقية، ومعنى عدم الالتزام بنصوص المواثيق الدولية، والتعامل برؤى وانحيازات سياسية، وتبنى شعارات حزبية وتحريضية؟
المؤسف أن التساؤلات لم ترتبط بسلوكيات وممارسات مهتمين محليين بحقوق الإنسان مثلاً، لكنها تصرفات وثيقة الصلة بمؤسسات دولية، مهمتها الأولى السهر على المبادئ الإنسانية التى صاغها البشر عبر نضال عشرات السنين، ورعايتها وتكريسها وتعزيز دورها فى المجتمعات المختلفة.
وحين تقع منظمات دولية، فى فخ الدعوة والتحريض على الفوضى، فنحن أمام مصيبة، لا يمكن تجاهلها، ولا غض الطرف عنها، خصوصاً ونحن نتحدث عن منظمة أممية، تابعة للأمم المتحدة، وأقصد هنا المفوضية السامية لحقوق الإنسان، التى وفجأة ومن دون مبرر قررت أن تتبنى دعوات الفوضى وتدافع عنها، بل وتخلط الأوراق، لانحياز سياسى سافر، لا يعلم أحد حقيقة السبب وراءه.
المفوضية السامية لحقوق الإنسان، أصدرت بياناً من تلقاء نفسها، تطالب الحكومة المصرية بتوفير الحماية لمن يرغب فى التظاهر، وذلك فى إطار مهمة الحكومة فى حماية حرية الرأى والتعبير، والحقيقة أن المفوضية أصابت الحق حين طالبت الحكومة، لكن الغريب أنها سلكت سلوكنا نحن العرب، حين قالت «ولا تقربوا الصلاة»، وتجاهلت عن عمد «وأنتم سكارى».
بيان المفوضية تواكب مع دعوة جماعة الإخوان الإرهابية لأنصارها، بالنزول إلى الشارع لإسقاط النظام!! وهى يقيناً دعوة تحريضية على الفوضى، لأنها تدعو إلى مخالفة القانون وإسقاط النظام السياسى، ودعوة الحكومة المصرية لحماية حق المتظاهرين فى التعبير عن الرأى جاءت فى هذا السياق، وهنا مبعث الاندهاش والحيرة من تصرّف المفوضية.
أن تدعو الحكومة إلى رعاية حق التظاهر لمن يرغبون فى إسقاط النظام السياسى، أمر مثير للدهشة، ولا أعرف حكومة فى العالم كله تحمى حق من يريد إسقاط نظام الحكم. ربما تحمى حق من يريد إسقاط الحكومة، لكن حماية من يريد إسقاط النظام السياسى فهذا والله شىء غريب.
الأصل فى الأمور أن حق التظاهر تنظمه قواعد وإجراءات وردت فى الإعلان العالمى لحقوق الإنسان، وجاء العهد الدولى للحقوق المدنية والسياسية، ليؤكد القواعد والإجراءات العامة المنظمة لممارسة هذا الحق، وأضاف إلى تلك القواعد فى المادة 19 من العهد، ما سماه بالواجبات والمسئوليات الخاصة، شريطة أن تكون محدّدة بنص قانون، وأن تكون ضرورية.
ومن أهم ما جاء النص عليه أن تكون القيود على ممارسة حرية التعبير لاحترام حقوق الآخرين أو سمعتهم، أو لحماية الأمن القومى، أو النظام العام، أو الصحة العامة، أو الآداب العامة، نحن إذاً أمام ما ورد فى وثيقة دولية عن فرض قيود، لكن وفق ضوابط، وهو ما يعنى وجود قوانين تنظم ممارسة الحق، دون أن تحظره أو تمنع الناس من ممارسة هذا الحق.
ما حصل أن المنظمة الأممية، سقطت فى فخ دعاوى الفوضى، بمطالبتها الحكومة المصرية برعاية حقوق منتهكى القانون، والسماح لهم بالتظاهر، باعتبار ذلك -من وجهة نظرهم- حقاً مطلقاً لا يجب التنازع فى شأنه، وهو تصرّف غريب يضرب عرض الحائط بكل مفاهيم دولة القانون، ويرسّخ للتغيير من خلال الفوضى، وليس من خلال ما استقرت عليه كل ديمقراطيات العالم، من أن الصندوق هو السبيل الوحيد للتغيير، واللجوء إلى غير ذلك، هو طريق التغيير بالثورة، وهنا فالحديث يرتبط بموازين القوى، وليس بالحقوق.
حين تطالب منظمة أممية حقوقية، بالسماح بالتعبير عن الرأى، من خارج الإطارات القانونية المنظمة، وبالمخالفة للقواعد والإجراءات والضوابط المُستقر عليها، وتنحاز إلى ممارسة حق مطلق بلا ضوابط، وتدافع عن الحقوق المطلقة بلا ضوابط ونظام، فهى بذلك تسقط ما هو قانونى من أجل ما هو ضد القانون، والانحياز ضد القانون هو وبتلقائية شديدة انحياز للفوضى، ودعوة للجميع إلى تجاهل القانون، وفى نفس الوقت طمأنة دعاة الفوضى بأن هناك من سيساندهم.
المسألة لم تعد دعوة وتحركات لتعزيز وتكريس مبادئ حقوق الإنسان، وحماية حريات الرأى والتعبير، بقدر ما تحولت إلى دعوات ضد مبادئ حقوق الإنسان، وضد كل ما سهر عليه البشر، وكافحوا من أجله، لصياغة مبادئ وقواعد وضوابط وإجراءات، تضمن للإنسان ممارسة حقوقه، فى إطار نظام عام، يحمى مفاهيم السلم والاستقرار، ويتيح للناس ممارسة حق التعبير والرأى من دون الانطلاق فى طريق الفوضى.
حين خرج مليون شخص فى شوارع لندن، يطالبون الحكومة بالامتناع عن غزو العراق، قال رئيس الحكومة البريطانية وقتها «عندى أغلبية منتخبة من الشعب»، وحين صوّت أغلبية نواب البرلمان برفض «بريكست»، قال رئيس الحكومة البريطانية الحالى «أنفذ أوامر أغلبية الشعب فى الاستفتاء»، إذاً نحن أمام مفهوم واحد، هو أن الأغلبية عبر صندوق الاقتراع السبيل إلى التغيير، وغير ذلك هى فوضى.
ما فعلته المفوضية السامية هو انقلاب على مفاهيم ومبادئ واضحة تدعم التعبير عن الرأى، فى إطار قواعد وإجراءات راسخة ومستقرة ومتفق عليها، لصالح الفوضى، ولصالح كل من يريد أن يفرض موقفه وقراره على الأغلبية، هى فعلاً مفوضية ضد حقوق الإنسان.