لا يمكن أن أنسى أول مشهد انتخابى حقيقى أمكن لى أن أتابعه بكثير من الاهتمام والشغف، وهو المشهد الذى عكس تلك المنازلة الانتخابية الحادة بين الرئيسين الأمريكيين الأسبقين رونالد ريجان، وجيمى كارتر، ضمن المناظرة التى جرت بينهما فى مثل هذا الشهر من عام 1980.
كان هذا بالنسبة إلى تلميذ مصرى، يدرس فى المرحلة الابتدائية، بمنزلة «خيال علمى».. وكيف لا؟ وهو يعيش فى بلد ينتهى فيه دور الحاكم عادة بالعزل أو القتل أو الموت، وليس عبر آلية لتداول السلطة، يتبارى خلالها مرشحان بنزاهة وإنصاف، ويُمنح كل منهما وقتاً مساوياً للآخر، حتى لو كان أحدهما رئيس دولة عظمى، والآخر مجرد ممثل مغمور.
بعد هذا المشهد المثير للخيال، والباعث على الأحلام، لم يكن أمام مصر لاحقاً، كغيرها من الجمهوريات العربية المنكوبة بالانتخابات الرديئة، إلا أن تصحو على مقتل الرئيس السادات، وتولى نائبه حسنى مبارك السلطة، التى مكث فيها ثلاثة عقود، لم تنته إلا بانتفاضة عارمة، وتدخل من الجيش.
لم يمنحنا «مبارك» فرصة لمعاينة الانتخابات العادلة، ويسود اعتقاد على نطاق واسع أن التزوير الذى شهدته النسخة الأخيرة للانتخابات البرلمانية فى عهده (جرت فى العام 2010) كان سبباً رئيسياً فى بلورة الشعور الغاضب ضده، ما وطّد للانتفاضة، التى أطاحته، وقادته لاحقاً إلى محاكمات عدة، أدين فى بعضها، وتم سجنه.
سيكون أبناء الجمهوريات العربية المحكومة بالانتخابات المزورة مدينين لتلك المشاهد الخلابة التى كانت تأتى إلى المنطقة عبر الأقمار الاصطناعية، وتُعرض لقطات منها فى نشرات المساء، بمداعبة خيالاتهم، وتعزيز أحلامهم.. لكن الأمور لا تبدو بهذه البساطة وهذا اليقين فى جميع الأحوال.
فلطالما كانت الانتخابات الأمريكية والفرنسية ملهمة لهؤلاء الذين يعيشون فى العالم الثالث، خصوصاً عندما تجد قلة حيلتهم فى توفير آلية سلمية رشيدة لتداول السلطة، وتحقيق مبدأ تكافؤ الفرص، واحترام حق الجمهور فى الاختيار، وإتاحة الفرص للراغبين فى الترشح للتعبير عن برامجهم وأفكارهم بحرية، وضبط العملية الانتخابية، ومنع تزوير إرادة الناخبين.
لكن تطورات أخيرة شهدتها فرنسا والولايات المتحدة راحت تخلخل هذه الصور والانطباعات، وتشير إلى ما يمكن اعتباره خللاً مستوراً فى العملية الانتخابية، قد يخلخل نزاهتها، ويحد من قدرتها على تجسيد الإرادة الحرة للناخبين.
ففى فرنسا، تم توجيه ثلاثة اتهامات إلى الرئيس الأسبق نيكولا ساركوزى، بخصوص قضية «تمويل ليبى» لحملته الانتخابية، وهى اتهامات تتعلق بـ«التمويل غير القانونى لحملته الانتخابية» و«إخفاء أموال عامة ليبية» و«الفساد السلبى».
وقد أفرج عن ساركوزى بعد توقيف احتياطى استمر لـ26 ساعة وإخضاعه ليومين من الاستجواب بشأن تمويل حملته الانتخابية الرئاسية عام 2007، بعد ظهور اتهامات جدية له بتقاضى نحو خمسة ملايين يورو من «القذافى» لتمويل حملته الانتخابية آنذاك.
وعلى الجانب الآخر من الأطلسى، ثمة اتهامات جدية يمكن أن تؤثر فى السلامة القانونية لنتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية التى جرت فى العام 2016، التى وصل بمقتضاها ترامب إلى سدة السلطة فى بلاده، وهى اتهامات تتعلق أولاً بمحاولته ابتزاز رئيس دولة أجنبية من أجل الضغط على خصمه الديمقراطى، وثانياً بدور روسى مفترض فى تعزيز فرص الرئيس أمام منافسته وزيرة الخارجية السابقة هيلارى كلينتون.
ففى شهر فبراير من العام الماضى، أكد المحقق الخاص الأمريكى روبرت مولر، فى لائحة اتهام رسمية، أن «وكالة روسية و13 مواطناً روسياً تدخلوا فى حملة الانتخابات الأمريكية فى الفترة من 2014 إلى 2016، فى إطار سياسة متعددة الأركان استهدفت دعم ترامب وتشويه صورة منافسته هيلارى كلينتون».
تتحدث لائحة الاتهام التى قدمها «مولر»، والتى جاءت فى 37 صفحة، عن «مؤامرة للإخلال بالانتخابات الأمريكية على يد أشخاص استخدموا حسابات إلكترونية زائفة لبث رسائل مثيرة للانقسام، وسافروا إلى الولايات المتحدة لجمع معلومات، ونظموا مسيرات سياسية متظاهرين بأنهم أمريكيون».
وتفيد اللائحة، التى اتسقت مع تحقيقات رسمية سابقة، وتقارير صحفية نُشرت فى وسائل إعلام معتبرة، أن «وكالة أبحاث الإنترنت الروسية كان لديها هدف استراتيجى لزرع الانقسام فى النظام السياسى الأمريكى، وخصوصاً فى أجواء الانتخابات الرئاسية التى جرت فى عام 2016».
وتعكس لائحة الاتهام إلى حد بعيد نتائج تقييم الاستخبارات الأمريكية (سى آى إيه)، فى يناير 2017، والتى توصلت إلى أن «روسيا تدخلت فى الانتخابات وأن هدفها تضمن فى نهاية الأمر مساعدة ترامب».
ليس هذا فقط، لكن ورقة بحثية مهمة، نُشرت فى العام 2017، فى دورية «ستراتيجيك ستديز كوترلى» الدورية الاستراتيجية الصادرة عن القوات الجوية الأمريكية، أفادت أن مروجى الحملات الدعائية ذات التوظيف السياسى عمدوا إلى استغلال وسائط التواصل الاجتماعى بكثافة لاستهداف الأوضاع السياسية الأمريكية خلال السنوات القليلة الماضية، وخصوصاً خلال الانتخابات البرلمانية والرئاسية.
لم يتم حسم تلك الاتهامات بشكل كامل فى كل من فرنسا والولايات المتحدة، لكن ما رشح، حتى الآن، من أدلة وقرائن يكشف بوضوح أن الآلية الانتخابية، ومن ورائها العملية الديمقراطية ذاتها، تواجهان خطراً وتعانيان أزمة، إذ تم التيقن ببساطة من أنه تم اختراقهما والتلاعب بهما.
لكن ثمة ما يبعث على الارتياح، ويعزز الثقة فى الديمقراطية، والانتخابات النزيهة، باعتبارهما الوسيلة الأفضل للحكم وتداول السلطة فى مجتمعات رشيدة، إذ بات بوسع الفرنسيين والأمريكيين أن يبحثوا فى هذا العوار، ويحاكموا المسئولين عنه، وربما يتمكنون من وضع المزيد من القواعد والشروط التى يمكن أن تحد من فرص تكراره.
وفى كل الأحوال، فإن الديمقراطية تتعثر ويمكن اختراقها والنيل من نزاهتها فى بعض الأحيان، والانتخابات التنافسية الرشيدة قد تخفق فى استيفاء معايير السلامة، لكن فرصة التصحيح وتجاوز الأخطاء تكون متاحة عادة.
سيمكن القول إن الانتخابات التى تفاعلت فى تونس منذ الإطاحة بـ«بن على» تقدم مثالاً واضحاً على مثل تلك الاختراقات، وسيمكن الاعتراف أيضاً أنها حفلت بالكثير من الأخطاء، وجاءت أحياناً بنتائج مثيرة للمخاوف، ومع ذلك فإن تلك الانتخابات تتطور، وتعالج أخطاءها، ويسود اعتقاد الآن أن تونس بفضلها، وبفضل السياق الذى تجرى فيه، باتت فى موضع الإلهام لمنطقتنا.