«عرقوب» هو أكذب أهل زمانه، ويُضرب به المثل عند العرب فى الكذب، إذ يذكر صاحب «المفصَّل فى تاريخ العرب قبل الإسلام» العلامة العراقى جواد على أن عرقوباً هذا كان من العماليق من العرب البائدة، وكان أكذب أهل زمانه، واسمه عرقوب بن معبد، وهو من يثرب.
وإن كان عرقوب قد ذاع صيته كأكذب أهل زمانه، فإن هناك حالياً الكثير من العراقيب الذين يتنفسون كذباً، ففاقوا بكذبهم «عرقوب يثرب».
تذكرت عرقوباً هذا وأنا أتابع أخبار العدوان التركى على الشقيقة سوريا، وما صاحب العدوان من حملة أكاذيب أطلقها «عرقوب إسطنبول»، وروَّجها «عراقيب العربان» السائرون خلفه فى وسائل الإعلام التى يديرونها والجيوش الإلكترونية التى يحركونها. استهل «عرقوب إسطنبول» عدوانه الغاشم على سوريا بكذبة مركبة، إذ أطلق على عدوانه عنوان «نبع السلام» ومنح قواته المعتدية لقب «الجيش المحمدى»، أما العملاء الخونة الذين تعاونوا معه على العدوان من السوريين فقد سماهم «العناصر المحلية الداعمة». ودارت الكذبة دورتها، وروّج العراقيب التابعون له ما حملته من دلالات، فالعدوان فى عرفهم عمل ضرورى لحماية دولته التى هى حامية الإسلام والسلام، وقواته المعتدية فى أدبياتهم هى الجيش المحمدى. وفى هذا خداع دينى وقومى، فهذا الاسم الملتبس يمكن تحميله بأنه جيش الإسلام الذى يحمل اسم النبى الأكرم، كما يمكن تحميله بدلالات قومية، إذ يذكر التاريخ العثمانى أن محمداً الذى حملت القوات اسمه هو محمد الفاتح، أو هو محمد الصغير الجندى الذى قُتل فى حرب الأتراك والليبيين ضد الإيطاليين عام 1911. وأياً كان، فكذبة الجيش المحمدى يمكن أن تُحمَّل بالدلالتين الدينية أو العثمانية القومية.
وأما الخونة المتعاونون معه على العدوان فهم «العناصر المحلية الداعمة»، وهذا يذكرنا بخائن آخر استخدمه العثمانيون فى عدوانهم على مصر والشام، وهو «خاير بك»، أمير حلب، الذى يقول عنه صاحب «بدائع الزهور فى وقائع الدهور» المؤرخ ابن إياس: «وممن كان موالساً على السلطان فى الباطن هو خاير بك، نائب حلب، فإنه أول من هرب من ميسرة السلطان حتى انكسر، فتوجه إلى حماة، فلما ملك ابن عثمان حلب صار من جملة أمرائه ولبس زى التراكمة وسماه ابن عثمان خاين بك».. هكذا هم الخونة الذين يخونون أوطانهم وقادتهم لكسب رضا المحتلين، لا يلقون إلا الإهانة والازدراء من الجميع حتى ممن لعقوا أحذيتهم.
وقد يمكن تفهُّم أكاذيب عرقوب إسطنبول وخداعه، فهو قد جُبل على الكذب وبنى مجده الزائف على ماكينة لا تتوقف عن الدوران لتنشر الزيف فى كل مكان، لكن ما يبقى مؤسفاً لأصحابه هو ما يفعله هؤلاء العراقيب من العربان الذين يدافعون عن العدوان بكل وقاحة ويهاجمون المناهضين له بكل صفاقة، والأكثر مدعاة للأسف هو أنهم يجدون من يصدقهم، بل ويؤيدهم.
وبما أننا نتحدث عن عراقيب العربان فى هذا الزمان، فلا يمكن ألا تداهمنا حزمة أكاذيب أخرى انطلقت من تونس هذه المرة. ففى هذا البلد العربى الشقيق الذى شهد ويشهد تجربة ديمقراطية تحتاج أشد ما تحتاج إلى الصدق فى كل مفرداتها وجميع مضامينها، نجدهم يصرون على الكذب والخداع.
ففى تونس دارت معركة انتخابية مهمة أفرزت شباباً رأى الفساد يحيط به من كل جانب، ففقد الثقة فى كل من قفز على ثورته وحوّلها عن خدمة البلاد والعباد إلى خدمة مجموعة من التنظيمات والأفراد، فولى وجهه شطر مرشح خلت صحيفة سوابقه السياسية من أى ارتباط بمن حكموا البلاد بعد 2011، فكان قيس سعيد. وبغضّ النظر عما قيل وسيقال عن الرجل، فهو بالتأكيد نتاج هذا المناخ الذى يسعى لتعديل مسار ثورته، وبالتأكيد فإن الذين وقفوا خلفه ودعموه ومنحوه أصواتهم ليسوا من المحسوبين على تلك الجماعة التى خرجت خاسرة تجر خيبتها من معركة الانتخابات الرئاسية، ولكن «عراقيب العربان» لا يعترفون بالهزيمة ولا يؤمنون إلا بالكذب شرعة ومنهاجاً، فحاولوا حرف المسار ليسرقوا فوز الرجل ومن ناصروه لينسبوه لأنفسهم. ولكى تكتمل الحبكة، دارت ماكينة الكذب لتنتج ما يخدم أهدافهم، فراحوا ينسبون للرجل ما لم يقله، ويلصقون بأنصاره ما لم يقترفوه، لخلق واقع هم أول من يعرف أنه غير حقيقى، تماماً كما كان يفعل «عرقوب» أكذب أهل زمانه.