البحيرة: ثلاثية الإهمال والمرض وسوء المعاملة تطارد "الصغار"
المعهد الطبى القومى بدمنهور
كُتب له مرافقة المعاناة والعذاب لحظة خروجه من رحم أمه، يستمر صراخه وألمه حتى يفارق الدنيا باحثاً عن ذاته.. هذا هو حال اللقطاء الرُضع الذين خرجوا للدنيا من رحم الخطيئة، ونبذهم المجتمع بعدما تخلى عنهم والداهم، وظلت الأيام عدواً لهم تذكرهم بحقيقتهم التى لا ذنب لهم فيها كلما نسوا، ولم تشفع لهم ظروفهم لدى المحيطين بهم، فكثير منهم يعانون التهميش والاضطهاد، فيما نجا القليل منهم بعدما أوقعهم حظهم بين يدى من يرحمهم.
عنابر اللقطاء بمحافظة البحيرة تُخفى بين جدرانها الكثير من القصص، منها ما تدمى لسماعها الأعين، ومنها ما يكون شاهداً على وجود الخير فى نفوس البشر، وتكون البداية دائماً حينما يستقبل أى مستشفى حكومى رضيعاً ألقت به أمه فى الشارع، إما خشية للفضيحة والعار، أو لعجزها عن رعايته، وفى أول يوم يرى فيه الصغير النور، يُكتب اسمه فى محاضر الشرطة ويكون تحت تصرف النيابة، حتى يأتى من يرحمه ويؤويه ويتكفل به.
«م. خ» ممرضة بمستشفى دمنهور التعليمى، تروى وقائع حقيقية لأطفال استقبلهم المستشفى فور العثور عليهم فى الشوارع، حتى غادروه إلى دور الرعاية، قائلة: «فى أغسطس من العام الماضى، استقبل المستشفى رضيعة عثر عليها الأهالى بمنطقة مضرب الأرز بمدينة دمنهور، وأتذكر تلك الطفلة لجمالها الملفت، وتعهدت بأن أرعاها حال وجودى بالمستشفى، وكنت أرفق بحالها بعدما زرع الله محبتها فى قلبى وسميتها حلا، وكان ما يحزننى هو إهمال الزميلات الأخريات لها، حتى إنى تغيبت عن العمل لمدة ٣ أيام لظروف طارئة، رجعت بعدها لأجد الطفلة مصابة بحمى بسبب الإهمال فى الطعام والغيار، وعلمت أن الزميلة المكلفة برعايتها أثناء غيابى، تركتها يومين بملابسها التى تبولت وتغوطت بها، ولم أدر ما إذا كانت تحافظ على مواعيد طعامها أم لا».
طبيب: نقدّر ظروفهم الصعبة ونرعاهم وفقاً للإمكانيات.. وممرضة: زميلاتى يقصرن فى حقهم وعلى الدولة حمايتهم
كانت «حلا» نموذجاً لآلاف الأطفال اللقطاء على مستوى الجمهورية، الذين أصبحوا ضحايا لانعدام الضمير واللامبالاة، فبعد واقعة مرض «حلا» وإصابتها بحمى كادت تودى بحياتها، تبين أن تلك النوعية من الأطفال لا يلقون عادة الرعاية الطبية اللازمة، وأصبح وجودهم بالمستشفيات العامة نقمة عليهم، كونهم يدفعون ضريبة الإهمال، بعدما جعلت الدولة مصيرهم معلقاً فى رقاب الممرضات فقط، دون رقابة أو متابعة من جهات أخرى، ويكون طعامهم وشرابهم وأدويتهم وملابسهم، من التبرعات التى تتلقاها المستشفيات، وفى الغالب يكون من جيوب الأطباء وبعض الإداريين.
وتابعت: «حينما بلغت الطفلة عامين من عمرها، أنهت إدارة المستشفى إجراءات إيداعها بدار الرعاية بدمنهور، وواصلت عملى برعاية الحالات المماثلة التى تصل للمستشفى، وكنت أجد الإهمال «غير المتعمد» من زميلاتى تجاه هؤلاء الأطفال، ولم أستطع تغيير الواقع وأحافظ عليهم، فبطبيعة الحال داخل المستشفيات الحكومية تجد الفوضى والإهمال بسبب وبدون سبب، ممرضات يتشاجرن مع بعضهن ويكون الطفل هو الضحية، وعجز فى التمريض والأدوية يدفع ثمنه الأطفال، زحام وعدم وجود أَسّرة كافية، ينعكس عليهم وعلى صحتهم بالسلب، تحديات كثيرة يواجهها اللقطاء أثناء وجودهم داخل المستشفيات الحكومية، وهناك أشياء صغيرة وتبدو طبيعية لأى طفل، لكن حرمان هؤلاء الأطفال منها قد يجعلهم عُرضة للمرض والموت، أولها لبن الأم الذى يفتقده هؤلاء الأطفال، والاستحمام والنظافة الشخصية التى لا يحصلون عليها عادةً، والغريب فى الأمر أنى لاحظت جميع الأطفال يضحكون مع أول همسة من ذويهم، ويبتسمون فى أوقات لهوهم مع أنفسهم، ما عدا هؤلاء الأطفال الذين كتبت عليهم التعاسة منذ يوم ولادتهم، لا تجدهم يضحكون مثل أقرانهم، كما لو أنهم يعلمون بواقعهم المرير، وهو ما لفت انتباهى خلال اهتمامى بتلك الحالات».
«ليس من الإنسانية أن نهمل فى حق أطفال ظلمهم آباء وأمهات أخطأن فى حق أنفسهن أولاً، وفى حق أطفالهن والمجتمع ثانياً»، بهذه الكلمات بدأ الدكتور السيد غازى، رئيس قسم الأطفال بمستشفى كفر الدوار العام ووكيل المستشفى، حديثه لـ«الوطن»، متابعاً: يستقبل المستشفى الكثير من الأطفال مجهولى الهوية «اللقطاء»، ويكون التسلم عن طريق محضر شرطة، يُحرر بمعرفة الإداريين بالمستشفى وبأقوال من عثروا عليهم، ومنذ تحرير المحضر يكون الرضيع تحت تصرف النيابة، حتى يتم إيداعه إحدى دور الرعاية حسب الإجراءات، يستكمل: «بحكم وضعهم المأساوى نهتم بهؤلاء الأطفال اهتماماً خاصاً.. مش هانبقى إحنا والزمن عليهم، نقوم بتكليف الممرضات اللاتى نلمس فيهن حسن المعاملة وسعة الصدر برعايتهم، ونسعى جاهدين لتوفير متطلباتهم من ملبس ومأكل وأدوية، من التبرعات والمشاركة المجتمعية، وأذكر فتاة تمت خطبتها بإحدى قرى أبيس بمركز كفر الدوار، كان قد عثر عليها الأهالى داخل «كرتونة» على الطريق الزراعى، وبعدما أودعوها المستشفى تحت الرعاية الطبية، قرر أحد الأثرياء بالقرية أن يتبناها، بالفعل ذهب إلى النيابة العامة وأنهى إجراءات التبنى، وعلى مدار ١٧ سنة كاملة، لم يفرق بينها وبين أبنائه، وكانت لها مكانة كبيرة لدى الأسرة، حتى تقدم أحد شباب القرية وخطبها منذ شهور، على أن يتم الزواج عقب بلوغها السن القانونية.