لا ينكر أحد الجهود المبذولة من الدولة لرعاية محدودى الدخل ومن هم أقل، من خلال قنوات وأدوات متعددة ومتنوعة، ووسائل مختلفة، تسعى قدر الإمكان إلى تلبية الحدود الدنيا من متطلبات هذه الفئات الاجتماعية، والتى اتسع مداها فى السنوات الأخيرة.
وإذا كان برنامج الإصلاح الاقتصادى والمالى الذى تحقق قد استند فى نجاحه على سياسات وبرامج ورؤى وأفكار اقتصادية، فإنه ما كان سيحقق هذا النجاح من دون مساندة شعبية، وافقت على هذه السياسات، وتحملت الكثير من التبعات الاجتماعية الناجمة عن هذه السياسات وتوابعها.
الدولة وهى تنفذ برنامج الإصلاح تنبهت مبكراً إلى الجانب السلبى لهذه السياسات، وتحديداً فى مربع تلبية الاحتياجات الأساسية للحياة اليومية، إلى جانب قطاع الخدمات بكافة أنواعه وأشكاله، فكانت حزمة الإجراءات الاجتماعية التى أقرتها الدولة لاستيعاب بعض تلك التأثيرات السلبية على قدرات الناس.
لكن كل تلك الإجراءات لم تمنع من تأثيرات من الصعب للغاية محاصرتها، فالدولة تتكلف عالياً من أجل محاصرة بعض هذه التداعيات، ومنها مثلاً المنافسة فى الأسواق، للسيطرة بقدر الإمكان على الأسعار، وتشكيل قوة ضغط على أباطرة السوق، فى محاولة للتأثير عليهم، أو التعاون معهم، فى تلبية السلع بأسعار ملائمة لقطاعات كبيرة من المجتمع، لم تعد قادرة على التعامل مع المتغيرات السريعة الحاصلة فى كلفة أعباء الحياة.
والمؤكد أيضاً أن ترجمة تلك المتغيرات فى تكاليف الحياة إلى أرقام نقدية، على هيئة دخول أو أجور، مقابل حركة مجمل الأسعار، والفارق بين الدخل والإنفاق، سرعان ما يكشف حجم ضخامة الأعباء الملقاة على كاهل غير القادرين، والذين حدد تقرير جهاز التعبئة العامة والإحصاء أعدادهم بنحو 33% من المصريين، أى ثلث عدد السكان تقريباً، وهو رقم ليس باليسير، وتنبهت له مؤسسات الدولة، التى يبدو من تحركاتها الأخيرة، سعيها إلى توفير المزيد من الإجراءات لتوسيع مجال الرعاية الاجتماعية.
الحاصل فعلياً أن التوازن بين القدرة على التحمل والقدرة على تلبية الاحتياجات، باتت تتطلب المزيد من الاهتمام، خصوصاً أن استتباب الأمور واستقرار الأوضاع، وتحقيق المزيد من التحسن، فتح الباب أمام الناس للتساؤل، عن جنى الثمار، وعن الإحساس بعوائد النجاحات التى تكبد الناس أعباءها.
النجاحات التى تحققت، وشهدت بها مؤسسات عالمية، وتحولت إلى نموذج يضرب به الأمثال فى العديد من الفعاليات الأممية والدولية، هذه النجاحات تفرض نفسها على أذهان الناس، باعتبارها تعكس اللحظة التى انتظرها الجميع، للركون إلى الهدوء والراحة بعد الماراثون الطويل، الذى اجتازه المصريون، للخروج من مأزق اقتصادى، كان هو الأخطر فى تاريخ البلاد، وربما كان مرشحاً لطريق إعلان الإفلاس العام.
الشاهد إذن، أن الناس تنتظر فى هذه المرحلة سياسات وإجراءات وتدابير مختلفة، تعيد لها الهدوء والاستقرار الاجتماعى، وتعمل على تضييق الهوة الحاصلة فعلياً، سياسات تطرح أدوات إضافية من وسائل الرعاية الاجتماعية، ولا أقول الحماية الاجتماعية، سياسات تضمن المساهمة مع الناس فى تحملهم أعباء الحياة، من خلال عمليات تضامن اجتماعى واسع تتيح لغير القادرين الأمل على النهوض مجدداً.
المسألة لم تعد تحتاج إلى أعمال الخير، أو الأنشطة الخدمية، المتناثرة هنا وهناك، قدر ما أصبحت تحتاج إلى رؤية شاملة، تعمل على تجميع كل الأدوات المتاحة والوسائل الممكنة، لتحقيق الرعاية الاجتماعية المطلوبة، على مختلف الصعد، خصوصاً أن كل الشواهد والدلائل تؤكد أن بهذا البلد ثروات وقدرات مذهلة، بعضها مهمل، والبعض الآخر غير مستغل.
الحاصل أن توزيع عوائد النجاح الاقتصادى، أو خيرات هذا البلد من أنشطته الاقتصادية، تحتاج إلى إعادة نظر شاملة، من أجل توزيع أكثر عدلاً لثروات الوطن على مستحقيه، توزيع جديد يتيح توسيع دائرة المستمتعين بعوائد النجاح، ويرفع معدلات انتشال الناس إلى مستويات اجتماعية أعلى، وبما يحقق حالة أقوى من الرضا على الوضع العام.
ربما كانت المسألة فى البداية، تتحدد بمدى النجاح فى خفض الإنفاق، أو فى خفض العجز بالموازنة العامة، أو بالقدرة على تحرير قطاع الطاقة من قيود الدعم وخلافه، لكن المؤكد أن الأمر لم يعد كذلك، بقدر ما أصبح النجاح مرتبطاً بمدى شعور الناس بانعكاس حالة النجاح الاقتصادى على حياتها اليومية، وفى تلبية احتياجاتها الأساسية.
فى السنوات الأخيرة كنا نعيش مرحلة الإصلاح الاقتصادى، بكل تداعياتها ونتائجها، والآن نحتاج إلى سياسات الإصلاح الاجتماعى، لنستكمل جهوداً بذلتها الدولة، وأتت بنتائج طيبة، لكنها تحتاج الآن إلى رؤية برامجية شاملة ومتكاملة، تُرضى الناس، وتحاصر وتقلل آثاراً سلبية نتجت عن مرحلة الإصلاح.
يجب أن نقر بأننا فى زمن الاستحقاقات الاجتماعية، وأن نضع سياسات تعكس هذا المفهوم، وتدفع فى اتجاه نجاحه، كما فعلنا فى زمن الإصلاح الاقتصادى.