إن قيادة السيارات عمل يتسم بالحيوية والأهمية والخطورة فى آن واحد، لذلك لا يوجد مجتمع رشيد يسمح لمواطنيه بالقيادة من دون تعلم مبادئها وأساسياتها، وامتلاك مهاراتها، وبلوغ درجة من درجات التثقيف فى هذا المجال. لذلك لا يُسمح بقيادة السيارات إلا لهؤلاء الذين تم تأكيد بلوغهم درجة الوعى المناسبة بهذه العملية عبر امتلاك «رخصة القيادة».
إن هذا المثل قريب جداً من فكرة التعامل مع وسائل الإعلام، لكن للأسف الشديد، فإن جميعنا يتعاطى مع هذا المجال الحيوى والمهم، والذى ينطوى أيضاً على قدر من المخاطر، من دون أن نتأكد من أننا نلم بما يكفى بقواعد التعامل ونحظى بدرجة مناسبة من الثقافة.
مع مطلع القرن الحادى والعشرين، زادت درجة الاهتمام بالأساليب التى يتفاعل بها الجمهور مع وسائل الإعلام، وظهرت محاولات جادة ومطردة لتحسين هذه الأساليب، بالشكل الذى يحد من آثارها الضارة ويعزز فوائدها المرغوبة.
وفى هذا الإطار، برز مفهوم «التربية الإعلامية» باعتباره طريقة مُثلى لإحداث جهود منظمة من قبَل المنظمات الدولية والحكومات وهيئات المجتمع المدنى، بهدف ترقية أساليب تعاطى الجمهور مع المحتوى المقدم عبر وسائل الإعلام، بالشكل الذى يتناسب مع طبيعة البيئة الإعلامية التفاعلية الراهنة.
وفى محاولتها لشرح مفهوم «التربية الإعلامية» تقول منظمة «اليونيسكو»: «شهد الناس حول العالم تزايداً كبيراً فى الوصول إلى المعلومة والقدرة على الاتصال. وبينما يعانى البعض من ندرة المعلومات، يجد البعض الآخر أنفسهم وسط تدفق هائل للمحتوى المطبوع والإذاعى والرقمى. وتشمل «التربية الإعلامية» والمعلوماتية مجموعة من القدرات للبحث عن المعلومات والمحتوى الإعلامى، وتقييمهما بعين ناقدة، واستخدامهما والمساهمة فيهما بحكمة، ومعرفة حقوق الفرد على الإنترنت، وفهم كيفية مواجهة خطاب الكراهية على الإنترنت والتنمر الإلكترونى، وفهم القضايا الأخلاقية المرتبطة بالوصول إلى المعلومات واستخدامها، والمشاركة فى الإعلام وتقنيات المعلومات والاتصالات لتعزيز المساواة، وحرية التعبير، والحوار بين الثقافات والأديان، والسلام. وتقدم «التربية الإعلامية» إجابات للأسئلة التى نطرحها على أنفسنا فى وقتٍ ما. كيف يمكننا الوصول إلى المحتوى، والبحث عنه، وتقييمه بعين ناقدة، واستخدامه، والمساهمة فيه بحكمة على الإنترنت وبعيداً عنها؟
ما حقوقنا على الإنترنت وعلى الأرض فيما يتصل بالمحتوى الإعلامى؟ ما القضايا الأخلاقية المرتبطة بالوصول إلى المعلومات واستخدامها؟ كيف يمكننا المشاركة فى الإعلام وتقنيات المعلومات والاتصالات لتعزيز المساواة، والحوار بين الثقافات والأديان، والسلام، وحرية التعبير والوصول إلى المعلومات؟
إن «التربية الإعلامية» تقدم إجابات عن هذه الأسئلة من خلال موارد بناء القدرات، مثل ورش التدريب، وإعداد الأدلة والكتيبات، وتطوير المناهج الدراسية، والقواعد الإرشادية للسياسات وتقييم أطر العمل.
ومن بين التعريفات المهمة لـ«التربية الإعلامية» أيضاً التعريف الذى صدر ضمن توصيات مؤتمر فيينا عام 1999، الذى عُقد تحت رعاية منظمة الأمم المتحدة، وجاء فيه: «التربية الإعلامية: تختص فى التعامل مع كل وسائل الإعلام الاتصالى، وتشمل الكلمات والرسوم المطبوعة والصوت والصور الساكنة والمتحركة التى يتم تقديمها عن طريق أى نوع من أنواع التقنيات. كما تُمكّن أفراد المجتمع من الوصول إلى فهم لوسائل الإعلام الاتصالية التى تُستخدم فى مجتمعهم والطريقة التى تعمل بها هذه الوسائل، ومن ثم تمكنهم من اكتساب المهارات فى استخدام وسائل الإعلام للتفاهم مع الآخرين».
يقول «مركز التربية الإعلامية» (Center for Media Literacy CMI)، وهو مركز بحوث أمريكى متخصص فى مجال «التربية الإعلامية»، إن «المهم أن نفهم أن محو الأمية الإعلامية لا يتعلق بحماية الأطفال من الرسائل غير المرغوب فيها فقط، لكنه مفهوم شامل وعريض يتعلق بتحسين قدرات أفراد الجمهور كافة».
وعلى الرغم من أن بعض النقاد يحث العائلات على إيقاف تشغيل التليفزيون فقط، باعتبار ذلك حلاً ناجحاً لمشكلات التعرض إلى وسائل الإعلام، فإن الحقيقة هى أن وسائل الإعلام متأصلة فى أجوائنا الثقافية لدرجة أنه حتى إذا قمت بإيقاف تشغيل تلك الوسائل، فإن تفادى آثارها الضارة لن يتحقق، كما أن حرمان الجمهور من فوائد التعرض لها يبقى عملاً غير مفهوم أو مقبول. الإعلام لم يعد يؤثر فقط فى ثقافتنا، بل بات هو ثقافتنا.
لذلك، فإن محو الأمية الإعلامية يتعلق بمساعدة أفراد الجمهور على أن يصبحوا أكفاء وناقدين وملمين بالقراءة والكتابة فى جميع أشكال الوسائط حتى يتحكموا فى تفسير ما يرونه أو يسمعونه بدلاً من ترك التفسير المقدم لهم من خلال فاعلين وأصحاب مصالح يتحكم فيهم.
وبحسب لين ماسترمان، الباحث فى مجال تدريس «التربية الإعلامية»، فإن هذه العملية يمكن أن تُسمى بـ«تعزيز مهارات الحكم الذاتى النقدى» أو تطوير القدرة على تفكير الجمهور بنفسه لنفسه.
ومن دون هذه القدرة الأساسية، لا يمكن للفرد أن يتمتع بكرامة كاملة كإنسان أو يمارس المواطنة فى مجتمع ديمقراطى، حيث يكون المواطن هو المعنى بفهم ما يدور حوله والحكم عليه.
وفى هذا الإطار تقدم «التربية الإعلامية» جملة من الأساليب التى تصب فى تطوير قدرات الجمهور، ومنها:
- التعرف إلى مصادر النصوص والأفلام والمشاهد التى يتعرض لها أفراد الجمهور.
- التعرف إلى الأهداف السياسية والاجتماعية والثقافية والتجارية والترفيهية التى تقف وراء هذه الرسائل وتتحكم فى تشكيلها.
- القدرة على فهم السياق الذى تُقدم من خلاله الرسائل.
- القدرة على التحليل وتكوين الآراء والانطباعات المستندة إلى أدلة.
- القدرة على فهم الرسائل المقدمة، والقيم التى تحملها، وتفسيرها، وتعليلها.
- القدرة على الوصول إلى وسائل الإعلام المرغوب التعرض لها.
- القدرة على الاختيار المناسب لوسائل الإعلام، وفقاً لمعرفة حقيقية بمدى التزاماتها المهنية والأخلاقية.
- القدرة على إنتاج مضامين إعلامية تتحلى بالقدر المناسب من الإيجابية والتفاهم والمشاركة، بغرض إقامة حوار ثقافى ومعرفى سليم، خصوصاً مع بروز مفهوم «المواطن الصحفى»، وانتشار وسائط التواصل الاجتماعى التى عززت الميل لإنتاج المضامين بواسطة الهواة، ومنحتهم منصات للبث يمكن أن تجد نفاذاً وتأثيراً يضارع ما تحصل عليه منصات الإعلام التقليدية.
«التربية الإعلامية» يجب أن تكون موضوع ورشة وطنية تتضافر فيها جهود الدولة والمجتمع المدنى من أجل ترقية أساليب تعامل الجمهور مع وسائل الإعلام.