أورد «القرطبى» فى تفسيره «الجامع لأحكام القرآن»، من رواية ابن عباس وغيره، وكذا «الطبرى» فى تاريخه، أن أحد الرجلين الصالحين المشار إليهما بالآية (23) من سورة المائدة أنهما حَثَّا بنى إسرائيل على طاعة موسى، هو يوشع بن نون بن أفرائيم بن يوسف بن يعقوب بن إسحق بن إبراهيم الخليل، عليهم السلام، وقيل إن يوشع، عليه السلام، هو الذى بعثه الله لبنى إسرائيل بعد موسى وهارون، عليهما السلام، وأنه الذى دخل ببنى إسرائيل أريحا لحرب مَن فيها.. فأبى بنو إسرائيل إلّا عنادهم، وطلبوا أن يكون عليهم ملك يقاتلون معه، فلما قيل لهم حذراً وتخوفاً مما اعتادوه: «هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُواْ» (البقرة 246)، زعموا أنهم لن ينكصوا ولن يفروا، ولكنهم عادوا لما اعتادوه من عناد ونكوص، جاء عنه بذات الآية (246) من سورة البقرة: «فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ» (البقرة 246)، فقال لهم نبيهم إن الله تعالى قد أجابهم إلى طلبهم وأرسل لهم طالوت ملكاً ليقودهم فى القتال كما طلبوا، فما بالهم قد نكصوا وخالفوا، حينذاك تعللوا عناداً بأنه لا يستحق الملك عليهم لأنه ليس من سبط الملوك، ولا من بيت النبوة، ولم يُعْط كثرة فى الأموال يستعين بها فى ملكه، ومن ثم فهم أحق بالملك منه: «وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً قَالُوَاْ أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِى الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللّهُ يُؤْتِى مُلْكَهُ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ» (البقرة 247).
تروى الآيات ما أداره عناد بنى إسرائيل فى حوارهم الضرير لنبيهم، ورده عليهم وحجته لهم أن الله تعالى مالك الملك يعطى ملكه من يشاء من عباده، وأن للملك طالوت علامة أنه سيأتيهم بالتابوت وما كان فيه حين انتزاعه منهم، وأن ذلك لهو البرهان القاطع إنْ كانوا مؤمنين مصدقين بربهم.
وأنت ترى أن العناد هو الذى أسلم المعاندين إلى وهن ذريعتهم فى اللجاجة والاعتراض، وعماهم عن رؤية أن الله تعالى هو الذى بعث طالوت ملكاً عليهم، وأنه سبحانه هو الذى يعطى الملك لمن يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، وأن قيادة الحروب شكيمة وقدرة وخبرة وعزم وهمّة، ومعايير ذلك تختلف عن المعايير التى أراد المعاندون فرضها، ولولا هذا العناد لرأوا ما عجزوا عن رؤيته حين عارضوا وأخذتهم اللجاجة، ولولاه لما جبنوا وخشوا لاحقاً من «جالوت» وجنوده ولأدركوا أن الهزيمة تأتى من الخذلان لا من عدد الرجال، وأن الغلبة تأتى على قدر الهمم والعزائم.. وهذا هو درس التاريخ!!
ويبدو من مراجعة مشاهد العناد الذى أورث ويورِّث الكفر أن بنى إسرائيل كان لهم من هذه المشاهد أوفى نصيب فى التاريخ.. من هذه المشاهد ما كان مع النبى إلياس، عليه السلام.. ويقول علماء الأنساب إنه إلياس بن ياسين بن فنحاص بن العيزار بن هارون، وقيل إنه ابن ألعازر بن العيزار بن هارون، فتجتمع هذه الروايات على أنه من نسل النبى هارون، شقيق النبى موسى، عليه السلام.
وروى ابن كثير فى «قصص الأنبياء» أنه قيل إنه أُرسل إلى أهل بعلبك، غربى دمشق، فدعاهم إلى الله، عز وجل، وإلى ترك عبادة صنمٍ لهم كانوا يسمونه «بعلاً» ويعبدونه من دون الله، وقيل إنها كانت امرأة اسمها «بعل».. وقد ورد هذا الاسم فيما أوردته سورة الصافات عما كان مع النبى إلياس، عليه السلام.
تقول الآيات بعد قصة موسى وهارون: «وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ * أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ * اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الأوَّلِينَ * فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ * إِلاّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِى الآخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ» (الصافات 123 - 132)، فدلت الآيات بذلك على أن الرواية الأولى هى الأصح. وتروى أن إلياس من الذين أكرمهم الله تعالى بالنبوة والرسالة، إذ قال لقومه «بنى إسرائيل»: اتقوا الله وحده وخافوه، ولا تشركوا معه غيره، وكيف تدعون عبادته وتعبدون صنماً من صنعكم لا حياة فيه ولا قيمة له، وتتركون عبادة الله الخالق الذى خلقكم وخلق آباءكم الأولين الماضين من قبلكم؟!
ومن عتامة العقول، وتصلب العناد، أن لا يرى هؤلاء أن الصنم المصنوع بأيديهم لا يمكن أن يكون ربَّاً خالقاً مبدعاً متصرفاً يُعْبد.. فالجماد لا روح فيه، ولا إرادة له، ناهيك أن يكون خالقاً يتحكم فى الحياة ومصير الأحياء ويتجه إليه المخلوقون بالإجلال والعبادة، إلّا أن هذه البدهية الناصعة لم تصل إلى قلوب وعقول بنى إسرائيل، وأشاحوا عنها وأعرضوا، ولم يكفهم إعراضهم وتكذيبهم لنبى الله إلياس، بل أرادوا قتله، ويقال إنه هرب واختفى منهم فى الغار زمناً حتى أهلك الله الملك وولّى غيره؛ فخرج من مكمنه إلى حيث دعا الملك الجديد إلى الإسلام لرب العالمين.
وإذ توعدت الآيات الكريمات من عاندوا فى الحق وكذّبوا بأنهم محضرون يوم القيامة للحساب والعقاب، فإنها أشادت بعباد الله حقَّاً، الذين أخلصوا دينهم لله، وبشّرتهم بأنهم ناجون من عذابه، لتختم الآيات بتحية إلى نبى الله إلياس، فتكفكف عنه فى تسرية ضمنية موجهة إلى رسول الله محمد، صلى الله عليه وسلم، الذى يروى له القرآن المجيد ما كان من قصص السابقين وما عاناه الرسل والأنبياء قبله من إعراض وعناد وتكذيب المخاطبين برسالات الله ونبواته..
وأورد ابن كثير فى «قصص الأنبياء» أن قول الآية: «سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ». مرده إلى أن العرب تلحق النون فى أسماء كثيرة وتبدلها من غيرها، كقولهم: إسماعيل وإسماعين، وإسرائيل وإسرائين، وإلياس وإلياسين.. وقال البعض إن المقصود بآل يس آل محمد، صلى الله عليه وسلم، والله تعالى أعلم.
وليس مقصدى هنا أن أفصل سير الأنبياء وقصص النبوات، وإنما أُعنى باستقصاء وتتبع مشاهد وصور ومثالب ظاهرة العناد وما تورثه، وأن أتعقب جذورها وعوادمها فى تاريخ الآدميين، وكيف كانت تذهب بهم بعيداً إلى مفارقة ومهاجرة العقل والمنطق، والإغراق فى العماء الذى اقترن دوماً بالجمود على هذا العناد جموداً أورثهم الكفر، وكان دائماً باباً لا ينغلق لكل ما عانته الإنسانية من ويلات!!
من عتامة العقول، وتصلب العناد، أن لا يرى هؤلاء أن الصنم المصنوع بأيديهم لا يمكن أن يكون ربَّاً خالقاً مبدعاً متصرفاً يُعْبد.. فالجماد لا روح فيه، ولا إرادة له، ناهيك أن يكون خالقاً يتحكم فى الحياة ومصير الأحياء ويتجه إليه المخلوقون بالإجلال والعبادة، إلّا أن هذه البدهية الناصعة لم تصل إلى قلوب وعقول بنى إسرائيل