لا يكاد يمر يوم من دون أن يتم ترويج شائعة أو أكثر عبر وسائط التواصل الاجتماعى ووسائل الإعلام التقليدية، وهو أمر لا يقتصر على مصر وحدها، ولكنه بات اتجاهاً عاماً يظهر فى كثير من الدول، سواء كانت متقدمة أو نامية.
لذلك كان مصطلح الأخبار المفبركة «Fake News» أحد المصطلحات الرائجة على المستوى العالمى خلال السنوات الأخيرة، حتى إن معاجم لغوية عريقة اختارته مصطلحاً رئيساً للعام 2017 وما بعده من أعوام.
وفى مواجهة طوفان من الشائعات، خصصت الحكومة المصرية مركزاً للرد على الشائعات وتفنيدها، عبر ملاحقة دؤوبة ورصد مستمر للأخبار المغلوطة، وإيراد تصحيح لها، عبر تقصى الأخبار من المصادر الرسمية المسئولة.
حسناً فعلت كلية الإعلام بجامعة القاهرة -عبر جهد مميز للعميدة الدكتورة هويدا مصطفى، وتنظيم فعال للدكتورة ليلى عبدالمجيد- حين عقدت ندوة علمية تحت عنوان: «الأخبار المفبركة والأمن المجتمعى»، يوم الخميس الماضى، لبحث تلك الظاهرة الخطيرة، وتحليل ماهيتها، وسبر تقنياتها، واقتراح سبل مواجهتها، من خلال عدد من الجلسات العلمية، التى ضمت أكاديميين وخبراء ومتخصصين.
بداية يجب التأكيد أن ظاهرة الأخبار المفبركة ظاهرة قديمة تنبع من عدد من الأسباب التى بتوافرها تزيد القابلية لتلقى تلك الأخبار والتأثر بها.
قبل سنوات، حاول المفكر الفرنسى جان دوريار التعليق على الحالة المعلوماتية التى يتجه إليها العالم فى ظل هذا التدافع المحموم على نشر الأخبار المفبركة بقوله: «فى هذا العالم تزداد المعلومات أكثر فأكثر.. بينما يصبح المعنى الحقيقى أقل فأقل.. ستضحى التشبيهات فى المجتمع المعولم أشدّ مصداقية من الواقع ذاته.. ستكون واقعاً فائقاً Hyper Reality؛ واستناداً إلى ذلك الواقع، الذى هو فى حقيقته مفبرك ومصطنع، سيُشكّل الوعى والوجدان لقطاعات كبيرة من الجمهور».
يدق دوريار ناقوس الخطر إذن؛ إذ يعتقد أن العناصر المختلقة التى باتت تلعب الدور الأكبر فى تشكيل وعى الجمهور ووجدانه ستشكل ما يمكن اعتباره واقعاً موازياً، وهو واقع مختلق بالكامل من شأنه أن يأخذ الجمهور إلى تصورات منحرفة وقرارات خاطئة.
ثمة نتائج كارثية لمثل تلك التصورات المغلوطة وتداعيات خطيرة على حالة الديمقراطية والتفكير العقلانى، وهى نتائج تحدّث عنها مبكراً المعلق السياسى الأمريكى الشهير والتر ليبمان، حين قال قبل عقود: «إن ما انطوت عليه وسائل الإعلام التقليدية من أكاذيب، كفيل بأن يخلق عالماً زائفاً. لم تعد لدىّ ثقة فى قدرة المواطن العادى على الحكم الذاتى العقلانى».
كان ليبمان يسعى إلى رصد تأثيرات الأخبار المفبركة على قدرة المواطن على الحكم العقلانى فى ظل قدرات محدودة لوسائل الإعلام التقليدية عند مقارنتها بالقدرات الأوسع والأكثر تأثيراً للوسائط الجديدة.
لقد تفاقمت تأثيرات الأخبار المغلوطة عبر الوسائط الجديدة بسبب ما تمتلكه من أدوات إقناع أمضى وقدرات انتشار أوسع، حتى إن دراسة مهمة صدرت عن جامعة نورث ويسترن العام الجارى، أفادت بأن معدلات ثقة الجمهور العربى فى وسائل الإعلام تراجعت بنسب تراوحت ما بين ٣٩٪ و٤٢٪. وأكدت الدراسة التى استهدفت عيّنة من سبعة آلاف مبحوث فى سبع دول عربية أن أكثر من نصف المبحوثين يعتقدون أن الأخبار السياسية معظمها «ملفق».
ثمة عدد من الخطوات الضرورية التى يمكن باتباعها تحجيم أثر الأخبار الزائفة ولجم الشائعات واحتواء مخاطرها لأقصى درجة ممكنة، وهى خطوات لا تتضمن سن قوانين عقابية، لكنها تحتاج إرادة وعملاً مدروساً مستديماً، لكى تظهر نتائجها على المديين المتوسط والبعيد.
أولى هذه الخطوات تتمثل فى علاج الحالة المعلوماتية المصرية، وتحويلها إلى حالة معلوماتية أكثر كفاءة وشفافية، عبر صدور قانون الحق فى تداول المعلومات، الذى ينص عليه الدستور فى المادة 68.
عندما تتوافر المعلومات الدقيقة، سيقل الميل إلى الاختلاق والتزوير، وستدحض الأخبار الصحيحة نظيرتها الزائفة وتبعدها عن مجال التأثير.
أما ثانية هذه الخطوات فتتصل بتوفير برامج تدريب جادة للعاملين فى مهنة الصحافة والإعلام، وبفضل هذه البرامج ستتم ترقية مهارات الصحفيين فى ما يتعلق بالتعاطى مع الإفادات الواردة من وسائط التواصل الاجتماعى.
وثالثة هذه الخطوات تتعلق بضرورة إصدار أدلة مهنية لتنظيم التعامل مع المعطيات المتوافرة فى «السوشيال ميديا»، وتوضيح طرق استخلاص الحقائق منها فى حال كانت موجودة.
أما رابعة تلك الخطوات فتتعلق بضرورة تعزيز المجال الإعلامى الوطنى التقليدى، ومنحه ما يستحقه من حرية وتعدد وتنوع، لأن كل تراجع فى هذا المجال يشكل فرصة للأخبار المغلوطة ويعزز الميل إلى التضليل.
يجب أيضاً تشجيع مستخدمى وسائط التواصل الاجتماعى على تبنِّى آليات التنظيم الذاتى لأدائهم على تلك الوسائط، ومن بين ما يمكن فعله فى هذا الصدد وضع آلية للإبلاغ عن الأخبار الزائفة والتعليقات المسيئة التى تدعو إلى الكراهية والعنف، واتخاذ إجراءات فورية ضد المستخدمين الذين اعتادوا نشر الشائعات والمحتوى الضار، مثل إبلاغ إدارة «فيس بوك» و«تويتر» بغلق حساباتهم.
وأن يقوم مستخدمو «السوشيال ميديا» بإنشاء صفحات لتوعية المستخدمين بعدم نشر المضامين التى تروج أخباراً زائفة، وأن يقوموا بوضع أهم العبارات والمصطلحات التى يجب عليهم الحذر عند استعمالها.
خلال تلك الندوة المميزة صدرت توصيتان مهمتان عن الدكتور هشام عطية، عميد كلية الإعلام بجامعة مصر للعلوم والتكنولوجيا؛ أولاهما تطالب بمخاطبة الأمم المتحدة من أجل إصدار ميثاق شرف لمستخدمى وسائط التواصل الاجتماعى، ونشره وترويجه، ومحاولة إقناع جمهور تلك الوسائط بتبنِّيه. أما التوصية الثانية فتختص بإصدار تقرير نصف سنوى عن حالة الأخبار المفبركة، عبر اقتراب بحثى يؤصل للفكرة، ويوضح نوعية الأخبار المزيفة التى أُريد لها الرواج، ويشرح عناصر الاختلاق فيها، ويفندها، فضلاً عن اقتراح التوصيات اللازمة بتعزيز الحالة الإعلامية والمعلوماتية المواكبة لها، وتقليل القابلية للانخداع بها وترويجها.
أما كاتب هذه السطور، فقد أشار إلى ضرورة الاهتمام ببرامج التربية الإعلامية، التى تستهدف ترقية مهارات الجمهور ومعارفه فى ما يتصل بالتعاطى مع وسائل الإعلام التقليدية والجديدة، بما يحد من الآثار الضارة للأخبار المغلوطة.
تتفاقم ظاهرة الأخبار المفبركة، وتهدد الأمن المجتمعى، وتقوِّض ثقة الجمهور فى وسائط الإعلام، والأخطر من ذلك أنها تُفقدنا مقومات الحكم العقلانى.