يرتدى بذلته الخاصة تحمل شارة بيضاء تتوسطها كلمة «بريد» باللغتين العربية والإنجليزية، يعدل من وضع «الطربوش» على رأسه ليظهر فى أبهى هندام، يحمل حقيبته الجلد المملوءة بمئات الخطابات، ويصعد على ظهر «حمار» يجوب به أرجاء المدينة، ليسلم رسائل محملة بالحكايات والأشواق والدموع، كان «ساعى البريد» شخصية حاضرة فى السينما المصرية منذ بدايتها، وكان حضوره مرتبطاً بأهمية تلك المهنة فى ذلك الوقت، قبل أن تبدأ فى التراجع والاختفاء تدريجياً مع تطور وسائل التواصل الاجتماعى.
الشخصية تغتنم فرصة التعامل مع قدر أكبر من البشر.. والمهنة ألهمت الأديب الراحل إبراهيم أصلان فى روايته "وردية ليل"
قبل قرار المخرج حسين كمال بتحويل رائعة الكاتب يحيى حقى الأدبية، «البوسطجى»، من مجموعة «دماء وطين» إلى فيلم يحمل نفس العنوان عام 1968، لم يكن هناك عمل سينمائى تطرق إلى تلك المهنة، فالعمل الذى جاء ضمن قائمة أهم 100 فيلم فى تاريخ السينما المصرية، تطرق إلى عدد من القضايا المجتمعية فى تلك الفترة، عندما تبدأ الأحداث بنقل «عباس» الذى قام بدوره الفنان شكرى سرحان، ليعمل ناظر مكتب بريد فى إحدى القرى الريفية، وفى مواجهة الملل الذى يسيطر على أجواء القرية والعدائية التى يتسم بها طبع أهلها، لا يجد «عباس» مخرجاً سوى فتح الخطابات وقراءة ما فيها حتى يعلم وجود علاقة غير شرعية بين إحدى فتيات القرية، ولكن إتلاف ساعى البريد لأحد الخطابات دون قصد يؤدى إلى مأساة تهز أرجاء القرية.
لا يعتبر ذلك العمل هو الوحيد الذى تطرق إلى مهنة ساعى البريد، الذى كان له حضور قوى وتأثير فى مسار الأحداث داخل الأفلام فى السينما المصرية، منها فيلم «لن أعترف» للمخرج كمال الشيخ، حيث تأخير وصول «ورقة البوسطة» أدى إلى أزمة كبيرة فى الأحداث، وجزء من تلك الأعمال تطرقت للأمر بشكل كوميدى، كالذى قدمه الفنان الراحل محمود شكوكو فى فيلم «البوسطجى» من إخراج كامل التلمسانى، إنتاج عام 1948، كما قدمها الفنان الراحل يونس شلبى فى فيلم بعنوان «موزع البريد» للمخرجة مها عرام، إنتاج عام 1994، وألقى الفيلم الضوء بشكل كوميدى على عدد من الظواهر السلبية فى المجتمع المصرى فى ذلك الوقت.
من جانبه، أشار الناقد محمود عبدالشكور إلى أن تلك الأفلام عبرت عن الوسائل المتاحة فى ذلك الوقت، تحديداً فى الخمسينات والستينات، حيث خرجت الأعمال على مستوى فنى جيد، كما نجحت فى نقل شفافية الكلمة المكتوبة وتأثيرها، وتقديم دراما قائمة على تفاصيل تلك الخطابات، متابعاً: «فكرة الجوابات استمرت من القرن 19 حتى الـ20، حتى حدوث ثورة تكنولوجية، عندما نشاهد تلك النوعية من الأفلام نشعر بالحنين إلى الماضى، فالأفلام أظهرت مدى إمكانية البشر وإيجادهم للوقت لكتابة الجوابات وإرسالها وانتظار الرد».
محمود قاسم: روايات عالمية تطرقت إلى مهنته وتحولت إلى أفلام منها "ساعى البريد يدق الباب مرتين"و"ساعى بريد نيرودا"
وقال الناقد محمود قاسم إن هناك مجموعة من الأفلام تناولت مهنة ساعى البريد، منها فيلم «لن أعترف» الذى تطرق إلى مشكلة تأخير الخطابات لأصحابها لفترات طويلة تصل أحياناً إلى 6 شهور فى تلك الفترة، إلى تناول حياة إحدى الأسر التى عانت من ذلك، وبخلاف فيلم «البوسطجى»، اقتصرت الأفلام التى تناولت تلك المهنة على أدوار صغيرة.
وأوضح «قاسم» أن الأدب كان أكثر ثراء فى تناول شخصية ساعى البريد من السينما، خاصة أن فيلم «البوسطجى» مأخوذ عن أصل روائى، وتابع: «هناك عدد من الروايات العالمية التى تطرقت لساعى البريد وتم تحويلها لأفلام منها (ساعى البريد يدق دائماً مرتين) للكاتب الأمريكى جايمس كاين، أو رواية (ساعى بريد نيرودا) للكاتب أنطونيو سكارميتا، التى قدمها المخرج مايكل رادفورد فى فيلم بعنوان (Il Postino)، التى تدور أحداثها حول ساعى بريد بسيط فى إحدى الجزر الإيطالية يجد نفسه مكلفاً بتوصيل البريد للشاعر التشيلى بابلو نيرودا، الذى تم نفيه هناك».
تعتبر مهنة «البوسطجى» أو «ساعى البريد» فرصة للتعامل مع قدر أكبر من البشر، بحسب «قاسم» والتعامل مع تفاصيل حياتهم اليومية، حيث كان للمهنة دور فى إعداد الكاتب الروائى الراحل إبراهيم أصلان، حيث التحق بالعمل فى هيئة البريد كـ«بوسطجى»، وهى التجربة التى ألهمته كتابة روايته «وردية ليل»، التى نشرت عام 1991، التى تدور أحداثها فى صالة الاستقبال بمصلحة البريد، التى يعمل فيها «سليمان» بطل الرواية، عامل تلغراف خلال فترة الليل، وتعتبر شبه سيرة ذاتية للكاتب الراحل أو توثيقاً لتلك المرحلة بمشاهداتها وعوالمها فى حياته.
تعليقات الفيسبوك