مسافة قصيرة تفصل بيننا وبين صخب تقليدى معتاد اسمه «الانتخابات» تبدأ متاعبه دوماً باتهامات صارت تقليدية أن هذا النظام الانتخابى غير ديمقراطى، أو أن الفكرة المضادة هى الديمقراطية.
والحقيقة التى يصر أغلب الناس على عدم اتباعها، أنه لا يوجد نظام انتخابى ديمقراطى وآخر غير ديمقراطى، أو أن هناك نظاماً انتخابياً حراً والثانى هو نظام مقيد، لأنه وفى الأساس كل النظم الانتخابية ديمقراطية، وكل النظم الانتخابية حرة.
المشكلة الحقيقية التى تدفعنا إلى هذا الصخب التقليدى، انحيازنا وتعصبنا فى أغلب الأحيان لأفكار نمطية، وإصرارنا على أن غيرها معادٍ للديمقراطية، وقيد على حرية الرأى والتعبير، أو يفرض قيوداً على الحق فى الاختيار والتمثيل البرلمانى.
الشاهد أن أعتى الأشكال فى الحرية بالنظم الديمقراطية ربما تكون فى واقع مختلف هى أكثرها تعبيراً عن الفشل وأكثرها مسئولية عن تدمير مستقبل وطن ما، لأن مسألة اختيار النظام الانتخابى الأمثل، لا تتوقف على إرادتك أو تصورك، وإنما على أسباب أخرى.
ظنى الشخصى أن نظام الانتخابات بالقائمة النسبية هو أفضل النظم فى التعبير عن إرادة الناخبين، لكن فى الحقيقة أن العمل بهذا النظام يتطلب واقعاً ذا مواصفات خاصة، ربما تتوافر فى دول، ولا تتوافر فى الأخرى.
فى مصر طبقنا نظام الانتخابات بالقائمة النسبية مرتين فى ثمانينات القرن الماضى، ولم يحقق هذا النظام الأهداف المتوقعة منه، أو يذهب بنا إلى حيث ذهب فى دول أخرى، أكثر تقدماً من حالنا.
وربما يصدق البعض فى اعتبار ذلك النظام هو الأفضل، لكن المشكلة أنه نظام يتطلب واقعاً حزبياً تعددياً راسخاً وذا تأثير مجتمعى، يصوّت فيه الناخبون لصالح الحزب، لكن الواقع أشار إلى اهتمام الأحزاب باختيار شخصيات بعينها لضمها إلى قوائمه ليضمن تصويت الناس لصالح هؤلاء الأشخاص وليس لصالح الحزب، والنتيجة أن الانتخابات جرت فى حقيقتها بقواعد الانتخابات الفردية، ولكن تحت مسمى القوائم الحزبية النسبية.
ولذلك رغم قناعتى بنظام الانتخابات بالقائمة النسبية سواء كانت حزبية أو غير حزبية، فإن هذه القناعة يخترقها مباشرة واقع حزبى مرير متراجع، عاجز عن اختراق صفوف الناخبين، ولا يملك القدرة على جذب أصواتها وفقاً لأفكاره ومبادئه ونشاطه الشعبى المتراكم المتواصل، لذلك تفشل فكرة القائمة النسبية سواء الحزبية أو المفتوحة فى التعبير عن إرادة الناخبين بصورة حقيقية، ولا تتيح اختيارات وفقاً لإرادتهم قدر ما تتيحها وفقاً لإرادة الحزب، ووفقاً للقدرات الذاتية لكل مرشح على حدة، حتى ولو كانت تجمعهم قائمة واحدة.
العوائل الانتخابية كثيرة ومتعددة، وأكثر تنوعاً وتعقداً، مما قد نتخيل، لذلك قام المتخصصون فى النظم الانتخابية، بتقسيمها إلى عائلات، وداخل كل عائلة فروع، ومن كل فرع تخرج عدة أنظمة تفصيلية، تحمل جينات متقاطعة تجمع فى بعض الأحيان جينات وصفات من عائلات تنتمى إلى فروع أخرى.
من هنا تأتى مشكلتنا المتكررة، ونحن نناقش النظام الانتخابى المرغوب، بتحضير مشروع قانون، نطرحه للنقاش، ونصدر ما ينتج عن أغلبية الأصوات، وهى عملية ديمقراطية، لكنها تمثل المرحلة الثانية، وتتجاوز ما هو أهم من ذلك بكثير.
المرحلة الأولى ونحن نتأهب لإصدار قانون انتخابات جديد، تقتضى منا البحث عن إجابة لسؤال أساسى وهو: ماذا نريد من هذه الانتخابات؟ وما الهدف المراد تحقيقه؟ وما الصورة العامة المطلوبة للمشهد السياسى فى المرحلة المقبلة؟
سأضطر آسفاً لاستعارة مشهد انتخابى من إسرائيل، حين تجمّدت الصورة على كتل محددة، لا يتحرك عدد أعضائها، واحتكرت هذه الكتل المشهد النيابى، لم يجد هؤلاء القوم سوى البحث عن نظام انتخابى بديل يعيد الحيوية إلى العملية الانتخابية، ويؤدى إلى تغيير النتائج، بحيث تأتى بقوى جديدة، وترفع من البعض، وتهبط بالبعض الآخر.
فكرة تزوير الانتخابات من عدمه، أو تغيير إرادة الناخبين، لم تعد موجودة بالصورة التقليدية، التى اعتدنا متابعتها، بتدخلات فجة فى صندوق الاقتراع، أو بإرهاب الناخبين: أو بالعنف والقتل والخطف، بعد أن تجاوز العالم كل ذلك بكثير.
الواقع يقول إنك تستطيع أن تحدد نتيجة الانتخابات، وأن تحدد الحزب الذى سيحصد الأغلبية، وأن تحدد القوى الاجتماعية التى ستقود مرحلة ما بعد الانتخابات، كل ذلك تستطيع تحديده من خلال النظام الانتخابى، الذى يغنيك عن سؤال التزوير.
المسألة وما فيها أن مناقشة الهدف المطلوب هى التى ستحدد النظام الانتخابى الملائم، مثلاً الدوائر الانتخابية المتسعة تتواءم مع النظام الفردى أو القائمة المطلقة، وهو يفرز أغلبية للقوى التقليدية والدينية وأصحاب الأموال، ويقلل من فرص القوى الاجتماعية الصاعدة أو الأجيال الشابة، التى لا تمتلك ما يساعدها على تلبية احتياجات منافسات هذا النظام.
والشاهد أن نظاماً انتخابياً بالقائمة المطلقة يتيح قدرة على ضمان أوسع تمثيل ممكن بمنح 100% من الأصوات لصالح قائمة الأغلبية بفئاتها وتقسيماتها المتنوعة العاكسة لدرجات كبيرة من ألوان الطيف السياسى والمجتمعى، لكنه نظام فى الوقت ذاته يحرم 49% من الناخبين من التعبير عن رأيهم باستبعاد اختيارهم ومنحه لصالح الأغلبية القليلة المضادة.
الأصل فى الأمر أن نبحث قبل أن نصيغ تشريعاً، وأن يتركز البحث على الهدف، قبل أن يتجه إلى الأنسب، لأن معرفة الهدف ستدفعنا للبحث عن أنسب السبل لتحقيق الهدف، لأنه وفى الحقيقة فإن بعض ما نتمناه يتعارض مع واقعنا، ويزيد من مرارته ولا يعالجه.