يستمر الجدل الذى يثيره الشيخ الشعراوى بقدر ما كان له من تأثير واسع استمر لما بعد وفاته، وأحد أوجه الجدل هو علاقته بجماعة الإخوان المسلمين، حيث سارع بعض المنتسبين للجماعة وأذنابها بمحاولة الاتجار بانتمائه للإخوان المسلمين فى الماضى.. والحقيقة أن الرجل كان عضواً فى جماعة الإخوان المسلمين عام ١٩٣٨ وهو ما زال طالباً، وأن عضويته فى الجماعة امتدت لعامين كاملين كان خلالهما قريباً من مؤسس الجماعة حسن البنا، لكن الحقيقة أيضاً أنه ترك الجماعة حين اختلفت مع حزب الوفد الذى كان يجمع بين الانتماء له والانتماء للجماعة.. والحق أيضاً أن مشاهير كثيرين كانوا يعرفون حسن البنا، منهم السادات وخالد محيى الدين مثلاً.. والأكيد أن «الشعراوى» لو كان حياً بيننا الآن لوقف ضد جماعة الإخوان المسلمين، لكن المشكلة أن «الشعراوى» ليس حياً بيننا الآن.. الحى هو آراؤه وفتاواه التى هى بنت الزمن الذى ظهر فيه، وهو زمن كانت القوى الإقليمية والدولية لا تمانع فى مغازلة ومداعبة فكرة الدولة الدينية فى مقابل هزيمة الأفكار اليسارية والحد من انتشار الشيوعية، لذلك كان «الشعراوى» -الذى ترك الإخوان- يغازل فكرة الدولة الدينية فى نفوس الناس، ويغازل جماعة الإخوان وقتها.. نعم كان «الشعراوى» يغازل إخوان السبعينات، لأن الظرف كان يستدعى مغازلة إخوان السبعينات. ترك «الشعراوى» جماعة الإخوان، لكنه لم يترك فكرة (أسلمة المجتمع من الأسفل) بنفوذ الدعوة، وبعيداً عن مخاطر السياسة المباشرة، فحين يسأله محاوره محمود فوزى فى كتابه «الشعراوى من القرية إلى القمة» عن الجبهة الإسلامية فى الجزائر، وما إذا كان يمكن أن تُصدِّر لمصر ثورة إسلامية.. يرحب الشيخ بأن تُصدِّر لنا الجبهة الثورة الإسلامية (شريطة ألا يكون هذا بهدف الحكم، ولكن بهدف تطبيق شرع الله) ويضيف: (هذا هو سبب فشل الإخوان. عندما دخلت فى أذهانهم حكاية الحكم بدأوا فى الانهيار)، ذلك أنهم (لو سكتوا لكان الحكم جاءهم).. يتبنى «الشعراوى» فكرة التغيير الهادئ والعميق للمجتمع، وهى فكرة إخوانية فى أحد أوجهها، ويواصل شرح وجهة نظره قائلاً: (كان الناس سيقولون مفيش أحسن من الإخوان يحكمونا)، أما حكمه النهائى على الجماعة فهو «الإخوان شجرة ما كان أورف ظلالها.. رحم الله شهيداً استنبتها وغفر الله لمن تعجَّل ثمرتها»، لا يرى «الشعراوى» عيباً فى الإخوان سوى فى أنهم استعجلوا قطف الثمار. ويتبع هو منهجاً آخر يقوم على عدم الاستعجال فى جنى الثمار، ويقوم أيضاً على عدم المنازعة على قمة السلطة ما دام سيتاح له تغيير المجتمع من الأسفل، وقد أُتيح له هذا فعلاً.
من أجل تطبيق هذه الفكرة يطلق «الشعراوى» قاعدة ذهبية يكررها فى كل حواراته ودروسه، وهى أنه «يريد أن يُحكَم بالإسلام لا أن يَحكُم بالإسلام»، والكلمة الأولى مضمومة وهى مبنية للمجهول، وتعنى أنه يريد تطبيق الشريعة بغض النظر عن شخص وطبيعة مَن يطبقها، أما الكلمة الثانية، التى تعلوها الفتحة، فتعنى أنه لا يريد أن يحكم هو بنفسه بقدر ما يريد إجبار الحاكم على تطبيق الشريعة، وفى هذا الإطار نفسه يعتبر الشيخ أن الحكومات التى لا تطبق الشريعة هى مِن مخلَّفات الاستعمار، وهو يرى أيضاً أننا «لا يجب أن نلوم الجماعات العنيفة على العنف الذى مارسته، ولكن نلوم الدوافع التى أدت إلى قيام هذه الحركات»!! «فالدوافع لم تكن طبيعية، بل هى رد فعل لانحراف بالغ الجموح والشراسة مبلغاً لا يمكن أن يقاوم إلا بالشدة»!! و«إذا كان لكل فعل رد فعل مساوٍ له فى المقدار ومضاد له فى الاتجاه، فيجب أن تتحمل بعض المجتمعات الإسلامية تطرُّف هذه الحركات».
انتهى كلام «الشعراوى» الذى يمكن أن تعتبره شهادة إبراء ذمة للإرهابيين منذ قال هذا الكلام فى بداية التسعينات، وحتى الآن، يمكنك أيضاً أن تعتبر كلامه لعباً على جميع الحبال أو إمساكاً للعصا من منطقة أكثر من المنتصف بقليل أو بكثير، يمكنك إذا شئتَ أن تعتبره شخصاً سيئاً، ويمكنك أيضاً أن تعتبره أفضل الأشخاص.. لكن الأكيد أن «الشعراوى» بآرائه هذه فى الإرهاب والإرهابيين، وبآرائه فى المرأة، وفى البنوك، وفى نقل الأعضاء.. هو ابن زمن آخر أصبح ماضياً ولا علاقة له بالمستقبل.. وأننا إذا أردنا المستقبل فإن علينا أن نودع «الشعراوى» فى مقبرة الماضى، ونبحث عن فقه جديد للمستقبل.