نظر إلى عينىّ فى توجس.. فما إن اطمأن أننى لن أنهره فى الأغلب بدأ فى التوجه نحوى..
- حاجة لله يا بيه.. والنبى حاجة علشان أتعشى!
أتحسس جيوبى فى سرعة لأكتشف أننى لا أملك فئات صغيرة من النقود.
- ربنا يسهلك يا بنى.
أجيبه فى روتينية مملة وأنا أشيح بوجهى بعيداً.. لا ييأس ذلك الطفل الصغير.. فيستمر فى المحاولة معى بشكل يثير الشفقة.. يعرف جيداً أننى سأرضخ فى النهاية.. فمن علمه ذلك النوع من التسول يدرك قسوة المشهد الذى يمثله الطفل..
الصورة تتكرر كثيراً.. إنه ذلك الطفل الذى يرتجف من البرد والخوف طوال الوقت.. والذى يمسك ببضعة أكياس من المناديل الورقية بحجة بيعها.. دون أن يبيع منها شيئاً أبداً..
يعانى أطفال الشوارع من البرد والجوع وسوء الاستخدام من قبل عصابات منظمة أقرب للنخاسين.. تقوم بتوزيعهم فى الأماكن الأكثر ثراء للتسول لحسابهم. أكثر من مرة أرى أحدهم وقد تملكه التعب ينام على جانب الطريق فى ساعة متأخرة من الليل وهو يحتضن أدوات عمله من أكياس المناديل.. كلهم أطفال لا تتجاوز أعمارهم العشر سنوات.. كلهم يرتدون ملابس خفيفة للغاية حتى فى أقسى ليالى الشتاء.. يوماً ما رأيت ذلك «النخاس» الذى يجبرهم على العمل.. كانت ساعة متأخرة من الليل حين وجدت أحدهم الذى يجمع هؤلاء الأطفال من الشارع.. رجل فى منتصف الأربعينات.. أكرت الشعر أسوده.. يحمل ندبة فى وجهه تشى بالكثير عن تاريخه القذر.. تتدلى من فمه باستهتار سيجارة لا تنطفئ.. إنه أقرب لنموذج «البلطجى» كما تصوره الأفلام السينمائية منه لأى شىء آخر.. المشكلة أنه كان يضرب أحد الأطفال فى قسوة لأنه لم يعطه المبلغ المحدد الذى يفرضه على كل منهم..!
المشكلة ليست مصرية الجنسية.. فقد عانت منها العديد من الدول عبر فترات مختلفة.. والتاريخ يذكر العديد من الحلول التى لجأت إليها الدول.. منها الشاذ مثل تلك المعسكرات التى أقامها النازى فى منتصف الثلاثينات.. والذين أجريت عليهم فيها العديد من التجارب الطبية القاسية أدت لمحاكمة الأطباء فى نورمبرج عقب الحرب العالمية الثانية.. ومنها المفيد الذى يمكن تكراره مثل ما فعل الراحل جمال عبدالناصر حين أنشأ لهم مدارس مهنية داخلية.. وقام بتعليمهم الحرف اليدوية..!
منذ عامين تقريباً أطلقت وزارة التضامن الاجتماعى مشروعاً باسم أطفال بلا مأوى.. استهدفت فيه القضاء على ظاهرة أطفال الشوارع.. والحد من استغلالهم واستخدامهم.. بل ومحاولة إعادتهم لأسرهم أو دمجهم مرة أخرى فى نظام التعليم.. المشروع يعد من أفضل ما قدمت الوزارة المجتهدة.. ولكن الأمر يبدو أنه يسير ببطء شديد.. فلا توجد إحصائيات معلنة عن نتائجه.. وجهود الوزارة ربما أكثر بطئاً من تسارع ازدياد هؤلاء الأطفال من حولنا..!
المشكلة الأساسية أن الأمر يحتاج فى اعتقادى لما هو أكبر من إمكانيات وزارة التضامن وحدها.. فمعظم هؤلاء الأطفال ينتمون إلى «عصابة» كونها أحد البلطجية.. الطفل لا يعرف غيره.. بل وقد يرفض التعاون مع حملات الوزارة ليعود إليه..!
الأمر يحتاج إلى تعاون وزارة الداخلية مع التضامن.. يحتاج لحملات منظمة لمداهمة أوكار تلك العصابات.. يحتاج لتشريع جديد يتيح للشرطة القبض على هؤلاء النخاسين فى سرعة وإن وصل الأمر للاعتقال.. الأمر يحتاج لتضافر جهود العديد من الوزارات مجتمعة.. وإلى مشروع متكامل لإعادة تأهيل هؤلاء الأطفال لدمجهم فى المجتمع مرة أخرى.. كإنشاء مؤسسات بالتعاون مع منظمات المجتمع المدنى.. على أن يحصل كل طفل منهم على قرض بعد تعلمه إحدى الحرف.. ليبدأ مشروعاً خاصاً به.. ونحصل نحن على قاعدة حرفية عريضة..!
نحتاج لإعادة النظر فى الأمر ككل.. فمصر الجديدة تحتاج لهؤلاء الأطفال الذين يتسولون طفولتهم.. أو هكذا أعتقد!!