لا تجد شخصية فى كتب التاريخ تثير الإعجاب والعجب معاً، مثلما هو الحال بالنسبة للسلطان الأشرف أبوالنصر طومان باى. لم يحب سلطان من السلاطين شعبه كما أحب هذا الرجل المصريين، لذا تجده يتصدر تلك القائمة التى تشتمل على عدد محدود من الحكام الذين أحبهم المصريون. وسر المحبة لدى المصرى معروف، فهو يهوى الحاكم الذى يرفع الظلم عنه، ولا يرهقه بالمكوس والضرائب، ويحميه من بطش من يملكون أدوات البطش من رجال الدولة. كان «طومان باى» يفعل كل ذلك فانتزع من المصريين إعجاباً لم ينتزعه حاكم من قبله أو من بعده.
تولى «طومان باى» منصب «نائب السلطان» عندما سار السلطان «قنصوه الغورى» إلى الشام لصد زحف جيش سليم الأول (عام 1516). ومنذ اليوم الأول لتوليه المنصب اجتهد الأمير فى معالجة العديد من المشكلات المتراكمة، مثل مشكلة الاختلال الأمنى، فخاض فى مواجهات حادة مع الأعراب الذين حاولوا التمرد ونهب أموال الناس وأملاكهم حين علموا بهزيمة «الغورى» فى مرج دابق. وكان هناك المماليك الجلبان الذين قرروا ذات يوم النزول إلى خان الخليلى ونهب الحى كاملاً ثم حرقه، لولا التهديد الذى وجهه لهم طومان باى. كما اجتهد فى رفع المعاناة الاقتصادية عن الناس، فاتخذ قرارات صارمة بفرض تسعيرة جبرية للسلع، وألزم التجار بخفض الأسعار، ورفع العديد من الضرائب عن كاهل الناس.
كان «طومان باى» عسكرياً حاذقاً، تمكن من استحداث العديد من الأدوات الحربية الجديدة التى لم تكن معروفة فى عصره، ونظم أقدم استعراض عسكرى للأسلحة والقوات عرفته مصر، لكنه واجه مشكلة كبرى عندما عجز عن تدبير نفقة خروج الأمراء المماليك وقواتهم إلى الحرب، فما كان منه إلا أن استحثَّ هممهم، وأفهمهم أنهم يقاتلون عن أنفسهم وأولادهم وأزواجهم، وأنه سيقاتل معهم كواحد منهم، ولم يوافق «طومان باى» على نهب الأهالى والتجار ليدبر نفقة الجند، وقال: «ما أحدث أيامى مظلمة أبداً». كما واجه مشكلة أخطر بسبب خيانة بعض أمراء المماليك، وأهمهم «خاير بك» الذى أطلق عليه المصريون «خاين بك» الذى باع «الغورى» فى الشام ثم عاد إلى مصر ليبيع «طومان» لبنى عثمان. كانت القاهرة فى ذلك الوقت تعج بالجواسيس، بعضهم من المماليك وصنائع المماليك وبعضهم أفراد يعيشون على أرض مصر، لكنهم ليسوا من أولاد البلد الأصلاء.
كانت الهزيمة من نصيب المصريين عندما تواجهوا مع عسكر سليم الأول فى موقعة الريدانية (عام 1517)، ودخل العثمانيون القاهرة فنهبوا كل ما صادفوه فيها، ولم يتركوا قماشاً ولا غلة ولا مطية يمتطيها الناس إلا واستولوا عليها. اختفى السلطان طومان باى وسط الأهالى بحى الصليبة وأخذ يكر على العثمانيين من هناك مع نفر قليل من المماليك، معتمداً على نظرية المقاومة بأسلوب حرب العصابات، فكان يهاجم وعسكره تجمعات العثمانيين ويقتل منهم من يستطيع قتله ثم يختفى. لكن الكثرة تغلب الشجاعة، فقد فتر عزم القلة المحيطة بطومان باى عن القتال، فتوقفت حركة المقاومة واضطر السلطان المكسور إلى الفرار نحو «البهنسا» وأخذ يجمع حوله العربان والمماليك الفارين نواحى الصعيد وجهز جيشاً ضخماً أعاد به الكرة على جيش «سليم شاه» فى معركة أشد شراسة من موقعة الريدانية، وقعت بالقرب من قرية «المنوات» بالجيزة، انتصر طومان باى فى بدايتها، لكنها انتهت بانكسار جديد لآخر السلاطين الجراكسة، ليفر بعدها إلى الغربية ويختبئ هناك، لكن العربان وشوا بمكانه إلى السلطان سليم شاه، فأرسل جنوده فقبضوا عليه ووضعوه فى الحديد، وتوجهوا به إلى «ابن عثمان». تم سحب طومان باى إلى باب زويلة وهناك رفعوه على الحبال لينفذوا فيه حكم الشنق، وقبل أن يلقى وجه ربه قال للناس الذين حوله: اقرأوا لى الفاتحة ثلاث مرات، ثم بسط يده وقرأ الفاتحة على نفسه ثلاث مرات وقرأ الناس معه، ثم قال للمشاعلى: اعمل شغلك. تم تنفيذ الحكم فى السلطان، فلما شهق شهقة الموت صرخت عليه الناس صرخة عظيمة وكثر عليه الحزن والأسف. بهذه العبارات وضع «ابن إياس» كلمة النهاية فى قصة السلطان طومان باى.