تاريخ العرب المعاصر هو تاريخ الفرص التاريخية الضائعة!
فرص ضائعة لحروب تخاذلنا عن خوضها، أو فرص سلام أضعناها لأسباب ترجع إلى العناد العائد للغباء السياسى!
كل حرب محتملة يمكن تجنبها بتسوية سياسية عاقلة!
وكل حرب تقع بالفعل، مهما طالت، ومهما كانت خسائرها سوف تنتهى -حكماً- إلى «تسوية».
وأعظم التسويات هى التى تمنع أزمة، أو توقف حرباً، أو تخفف أضراراً عظمى.
فى الثقافة السياسية المعاصرة هناك «تلوث فكرى» يؤدى إلى اعتبار مبدأ «التسوية» أنه «عار» و«تنازل» و«بيع للضمائر والأوطان».
قد تكون هناك تسويات فى التاريخ، مشبوهة غير وطنية، غير عادلة، لكن ليست كل تسوية كذلك.
هناك تسويات واقعية، عملية، غير انتهازية، تؤدى إلى الإنقاذ والخلاص من كوارث عظمى، وأضرار كبرى، وتؤدى إلى تجنّب انهيارات اقتصادية أو تصادمات دموية.
وفى كتاب «فن الحرب» للقائد الصينى العبقرى «صن تسو» عبارة بليغة تدرّس حتى الآن فى الأكاديميات العسكرية الحديثة رغم مرور أكثر من ألفى عام عليها تقول: «اذهب إلى التفاوض راضياً، ولا تذهب للحرب إلا مضطراً».
تخيلوا لو تجنّبنا الحرب العالمية الأولى لما فقدت البشرية 35 مليوناً من الضحايا، ولو تجنّبنا الحرب الثانية لما فقدنا 45 مليوناً، ولو تجنّبنا حرب «العراق - إيران» لوفرنا 4٫5 مليون قتيل وجريح و230 مليار دولار خسائر مباشرة.
لو تجنّبت لبنان حربها الأهلية لما فقدت 14٪ من شبابها بين قتيل وجريح، ولما خسر الاقتصاد ما بين 80 و100 مليار دولار!
لو توصل الحكم فى دمشق إلى تسوية عقب أحداث «درعا»، التى أدت إلى غضبة الجماهير، لوفرنا أرواح 4٫5 مليون سورى ما بين قتيل وجريح و14 مليوناً ما بين لاجئ أو نازح، وخسائر تتعدى الـ400 مليار دولار على أقل تقدير!
فى لبنان، هناك نظرية «التسوية القاتلة» التى تقوم على حالة «الفوز الكامل للطرف مقابل الهزيمة الكاملة للطرف الثانى».
فى لبنان الآن هناك «ملاكمة سياسية» على حلبة الصراع، لا فوز فيها بالنقاط، ولا انسحاب بالتراضى، ولكن مسموح -فقط- بالفوز بالضربة القاضية!
وكأن منطق «التسوية المرضية الواقعية» القائمة على التعقل والبراجماتية ومراعاة المصلحة العامة يلى «الشعارات والتكبر السياسى».
وقبل أن أستمر فى الشرح، أؤكد بشكل قاطع أن هناك أموراً يصعب، بل يستحيل، الوصول فيها إلى حل وسط، مثل شئون «السيادة الوطنية»، أو أمن البلاد والعباد، أو الدفاع عن المقدسات.
غير ما سبق، فإن البشرية عرفت منهج التسوية التى تعرف بالإنجليزية بالـCompromise.
التسوية أو الكومبروميز عرفتها مدارس السياسة المعاصرة بشكل مقنن، حينما ظهرت فى أدبيات الكونجرس الأمريكى عام 1850، فى ما عرف بـ«تسوية العبيد الهاربين» لإنقاذ الشمال والجنوب الأمريكى من تدهور ودماء.
والتسوية أو المساومة فى القاموس العربى تعنى فى القاموس «المحيط» و«لسان العرب»: «ساومه، أى فاوضه فى البيع والشراء، أو ناقشه أو جادله للاتفاق على ثمن سلعة أو للحصول على أفضل سعر».
وفى العقل الأنجلوساكسونى، فإن التسوية عبر التفاوض أو المساومة عبر الحوار هى التوصّل إلى حل وسط يجنّب الطرفين خسائر أكبر لو لم تتم هذه المفاوضات.
التفاوض أو المساومة تهدف إلى «حل واقعى»، بدلاً من السعى لـ«هوس وضلالات محو وإلغاء الآخر من الوجود».
إذا أدت التسوية إلى استعادة الأرض دون دماء، أو استعادة الحقوق دون سنوات من التقاضى، أو منع حرب أهلية، أو انهيار فى الاقتصاد، أو مصادمات حدودية، فإنها تعد عملاً نبيلاً، وتعتبر إنجازاً مفيداً.
وإذا كان التاريخ قد عرف زعماء وطنيين عرفوا معنى التسوية التاريخية أمثال: تشرشل وديجول وستالين وروزفلت وغاندى وجون كنيدى، وريتشارد نيكسون ورونالد ريجان وميخائيل جورباتشوف وأنور السادات، فإن كل هؤلاء لا تنقصهم الوطنية أو الشجاعة، لكنهم اختاروا القرار المصيب، حتى لو لم يكن القرار الأكثر شعبوية.
يكفينا قدوة فى التعقل والحكمة فى إدارة شئون البلاد والعباد موقف سيد الخلق عليه أفضل الصلاة والسلام، فى صلح «الحديبية»، حينما رضى وتصالح ووقع على اتفاق يجنح إلى السلم، وينظم شروط زيارة بيت الله الحرام مع كفار قريش.
يا قوم: هذا سيد الخلق، يفاوض على زيارة بيت الله مع الكفار، وأنتم تختلفون شهوراً وأعواماً على حرف فى كلمة أو سطر فى اتفاق.
حقاً تاريخنا هو تاريخ الفرص الضائعة.
يا ألف خسارة!