فى الأسبوع الماضى، وبعد نشر مقالى عن أرسطو وليلى مراد وسيدنا الحسين، وضعت رابط المقال ونصه على صفحتى الشخصية على موقع «فيس بوك»، وطلبت من الصديقات والأصدقاء التعليق على ما ورد به من أفكار، وفعلت الأمر ذاته مع مجموعة أخرى من الصديقات والأصدقاء اعتدت أن أرسل إليهم مقالاتى، كان هدفى من دعوتى لهم بالتعليق هو نقل ما يدور فى ذهنى من أفكار إلى ساحة نقاش أوسع، يشارك فيها أشخاص مختلفو الطباع متنوعو الأفكار متعددو الانتماءات الطبقية، وقد أسعدتنى جميع التعليقات التى وصلتنى بوسائل متعدّدة، رغم أن بعضها حمل هجوماً علىّ واتهاماً لى بأننى أسوق لنماذج حكم غير ديمقراطية، أو أننى أنحاز لفكرة المستبد العادل، وأننى أيضاً أشير من طرف خفى إلى القول بأن الشعب المصرى خصوصاً، والشعب العربى بشكل عام، غير جدير بالديمقراطية، وأنه يحتاج دائماً لمستبد، سواء كان عادلاً أو غير عادل.
أقول لم تغضبنى تلك التعليقات، لكنها فتحت أمامى باباً جديداً للنقاش يتعلق بشعور البعض بالتمايز عن الآخرين وإيمانهم بأنهم قادرون على إصدار الأحكام وتقييم سلوك الأشخاص وآرائهم، ليس وفق ما يطرحونه من آراء أو ما يتخذونه من مواقف، لكن وفق ما استنتجوه هم من كلامهم أو من كتاباتهم فى حالة مقالى الأخير، فعلى الرغم من أننى لم أتخذ موقفاً مؤيداً أو معارضاً لما تضمّنه المقال من أفكار للبحث عن أفضل الطرق للحكم، فإن هناك من استنتج منه ما أراد هو أن يستنتجه ليبنى على استنتاجه موقفاً مما كتبت، وليس رأياً فى ما دعوتهم إلى النقاش بشأنه، وهذا فى رأيى أحد أوجه القصور فى طريقة تفكيرنا، وهو يحول فى كثير من الأحوال دون التوصّل إلى نقاط اتفاق بين مجموعة من المتحاورين، حتى لو كان موضوع الحوار أين نذهب هذا المساء؟ أو فى أىّ مطعم قررنا تناول العشاء؟
الغريب فى ما وصلنى من تعليقات هو أن بعضاً منها حمل تناقضاً فى رأى صاحبه عن آراء سابقة له كان قد أعلنها فى مواجهتى.
وأنا فى هذه الحالة زارنى عمنا صلاح جاهين بواحدة من رباعياته البسيطة العميقة فى آنٍ:
لا تجبر الإنسان ولا تخيره
يكفيه ما فيه من عقل بيحيره
اللى النهارده بيطلبه ويرجاه
هو اللى بكرة هيشتهى يغيره
الله يرحمك يا عم صلاح، يا من تمنيت أن أشرف بلقائه والجلوس فى حضرته.
المهم، نعود مرة أخرى للسؤال بشأن أنسب الطرق للحكم، خاصة فى مجتمعاتنا العربية.
واسمحوا لى أن أوضح مرة أخرى أننى أفكر بصوت عالٍ ولا أنحاز لتصور معين، أو على الأقل لا أعلن انحيازى لما أراه طريقة أفضل للحكم.
فى أواخر القرن التاسع عشر عاشت مصر والوطن العربى صراعاً فكرياً، كانت له مقدمات فى العقود السابقة، وأصبحت له امتدادات فى العقود التالية، بل لا نخالف الحقيقة إن قلنا إن تلك الامتدادات ما زالت تعيش بين ظهرانينا حتى هذه اللحظة.
كان الصراع محتدماً بين تيار الانكفاء على الذات والعودة إلى الماضى، بحثاً عن طريق الخلاص من حالة التخلف التى كانت عنواناً عريضاً لما تعيشه مصر، وبين تيار التغريب الداعى إلى أهمية أن يولى الجميع وجوههم شطر الغرب المتقدّم، للأخذ بأسباب التقدّم التى يعيشها ونفض «غبار» الماضى، الذى أوصلنا إلى ما نعيشه من تراجع على مختلف المستويات.
كان التصور الأول يمثل هجرة فى التاريخ إلى ما يراه أنصار هذا التوجّه سنوات الازدهار للحضارة العربية الإسلامية، وكان التصور الثانى يمثل هجرة فى الجغرافيا إلى ما يراه أصحاب هذا التيار أسباب التقدم الذى يعيشه الغرب.
وبين التيارين ظهر تيار وسطى لا يخاصم التاريخ ولا يكره الجغرافيا، بل يدرك أن مواطن القوة فى تاريخنا عظيمة، وأن الاعتزاز بثقافتنا وحضارتنا لا يعنى إغلاق الباب أمام الاستفادة مما أحرزه الغرب من تقدم.
من التيار الأول خرجت حركات وجماعات شتى، ومن التيار الثانى ظهرت قوى وأحزاب متعددة، وبقى التيار الثالث يبحث عن نموذج يلبّى طموحات المصريين فى التقدّم والتطوّر حتى تبلور هو الآخر فى تيار وطنى جامع عبّر عن نفسه بطرق متنوعة.
وما زال هذا الصراع محتدماً بين التيارات الثلاثة، وما زالت تجليات هذا الصراع تسيطر على حياتنا على مختلف الصعد.
هل ابتعدنا قليلاً عن السؤال الذى نسعى للإجابة عنه؟
لا أعتقد.. بل نحن بدأنا رحلة الإجابة عن السؤال.. وللحديث بقية..