نُشر مؤخراً كتاب باللغة الفرنسية، بعنوان (Le droit، nouvelle arme de guerre economique)، أى «القانون كسلاح جديد فى الحروب الاقتصادية». ومؤلف هذا الكتاب فرنسى من أصل جزائرى، ويُدعى «على لايدى» (Ali Laïdi). ويقع هذا الكتاب فى (331) صفحة، ويشرح كيف تستخدم الولايات المتحدة الأمريكية سلاح القانون فى زعزعة استقرار الشركات والمشروعات الأوروبية. ويأتى صدور هذا الكتاب تزامناً مع الحرب التجارية التى تشنها الولايات المتحدة الأمريكية فى عهد الرئيس الحالى «دونالد ترامب» ضد جمهورية الصين الشعبية وبعض الدول الأوروبية. ومع ذلك، يمكن القول إن استخدام القانون كوسيلة للصراع والحروب مع الدول الأخرى لا يقتصر على فترة الرئاسة الأمريكية الحالية، وإنما يمثل سياسة أمريكية ثابتة منذ عقود عديدة. ويتناول الكتاب أولاً القوانين الأمريكية متعدية الحدود، التى تطبق على الوقائع المرتكبة خارج أراضى الولايات المتحدة الأمريكية، والمثال الأبرز لها هو قانون الممارسات الأجنبية الفاسدة (Foreign Corrupt Practices Act). ولعل القارئ العزيز يتذكر تطبيق هذا القانون على شركة مرسيدس الألمانية فى واقعة اتهامها برشوة بعض كبار المسئولين المصريين فى السنوات الأخيرة من فترة حكم الرئيس الأسبق «محمد حسنى مبارك». كذلك، يتحدث الكاتب عن إصدار بعض القوانين بهدف فرض عقوبات على الدول الأجنبية، والمثال الأبرز والأشهر لها فى منطقتنا العربية هو «قانون العدالة ضد رعاة الإرهاب» (جاستا). ويشير الكاتب أيضاً إلى سيطرة كبريات شركات المحاماة الأنجلو سكسونية على السوق القانونية، حيث تقفز إلى الذهن فوراً ومباشرة أسماء شركات عالمية عتيدة فى مجال الاستشارات القانونية، نذكر منها «بيكر ماكنزى» (Baker McKenzie)، «لاثام أند واتكنز» (Latham & Watkins)، «آلن آند أوفرى» (Allen & Overy)، «لينكلاتيرز» (Linklaters) و«فريش فيلد» (Freshfields Bruckhaus Deringer).
ونعتقد أن اللجوء إلى القانون كوسيلة فى الصراعات الدولية يتجاوز النطاق الاقتصادى، ويمتد إلى العديد من المجالات الأخرى. وهذا الاستخدام للقانون كوسيلة فى الصراعات والحروب بين الدول لا يقتصر على الحالة الأمريكية وحدها، وإنما يمتد إلى غيرها من الدول الكبرى. وللتدليل على ذلك، يمكن أن نشير إلى بعض القوانين الأجنبية الصادرة مؤخراً بهدف تغيير أوراق اللعبة فى الصراعات الدولية. فعلى سبيل المثال، وفيما يتعلق بالصراع الروسى الأوكرانى على السيادة فى شبه جزيرة القرم، عمد الرئيس الروسى «فلاديمير بوتين» إلى استخدام القانون كإحدى أدوات الصراع والحروب، من خلال توقيع أمر رئاسى فى نهاية شهر أبريل الماضى، يسمح بتسريع إجراءات منح الجنسية الروسية إلى كل مواطنى أوكرانيا، وليس فقط لمواطنى جمهوريتى «لوجانسك ودونيتسك». وكان قد سبق هذا الإجراء قيام موسكو بتخفيف إجراءات منح الجنسية الروسية لسكان المنطقتين الانفصاليتين فى أوكرانيا، فى خطوة دانتها كييف وعدد من الدول الغربية، معتبرة إياها مساساً بسيادة الجمهورية السوفيتية السابقة. وقال «بوتين» إن بلاده ستتحمل كل مسئولياتها حيال مواطنيها الروس الجدد، مضيفاً إنه: «عندما يتسلّمون جواز السفر الروسى سيحصل المقيمون فى شرق أوكرانيا على مساعدات اجتماعية ورواتب تقاعد وزيادات وكل ما يحق لهم». ورد الرئيس الأوكرانى الجديد «فولوديمير زنسكى» على الإجراء الروسى بشأن تسهيل إعطاء الجنسية لكل الأوكرانيين، مؤكداً أن المواطنين الأوكرانيين يرفضون الجنسية الروسية، واقترح بدوره منح جوازات سفر أوكرانية للروس الذين «يعانون» من «استبداد» بوتين، على حد تعبيره. من ناحية أخرى، تعتبر كل من روسيا والصين من أوائل الدول التى تتخذ إجراءات تشريعية بشأن تبنى العملات الافتراضية. ففى السابع والعشرين من أكتوبر الماضى، وضمن استعدادها لاعتماد العملة الرقمية، قامت جمهورية الصين الشعبية بإصدار قانون التشفير (cryptography law). وفى العشرين من سبتمبر 2017م، وفى نهاية اجتماع خُصص لبحث تطوير البنية التحتية لقطاع النقل، أكد الرئيس الروسى «فلاديمير بوتين» ضرورة وضع خطة عمل لتأمين الانتقال إلى العملة الوطنية فى حسابات خدمات الموانئ، موعزاً بضرورة إدخال التعليمات اللازمة فى القوانين النافذة لتأمين انتقال سلس إلى العملة الوطنية فى الموانئ الروسية. ويمكن الربط بسهولة بين هذه الإجراءات وبين رغبة الدولتين فى زعزعة الأرض تحت سيطرة الدولار الأمريكى على الاقتصاد العالمى، نتيجة إقرار نظام التنسيق النقدى المعروف بنظام «بروتن وودز»، حيث تم اعتماد الدولار الأمريكى أداة لتسوية المدفوعات الدولية.
وهكذا، ومن خلال العرض السابق، يبدو جلياً أن التدابير التشريعية الوطنية تشكل إحدى الأدوات التى يمكن اللجوء إليها فى تغيير موازين القوى والإسهام فى حسم الصراعات الدولية، الأمر الذى يدلل مرة أخرى على العلاقة الوثيقة بين القانون والسياسة. والله من وراء القصد.