مجرد أن نردّد كلمة جوع يقفز فوراً إلى أذهاننا الفقر والعوز وسد الرمق، غير أن الجوع إلى الأمان والراحة هو أكثر التعبيرات المتداولة حالياً، خصوصاً فى حالة الفوضى التى تحيط بمنطقة الشرق الأوسط المشحون بالأزمات وانعدام الاستقرار والأمان، فقد أصبح الإحساس بالطمأنينة نوعاً من الترف بعيد المنال، وحل مكانه اليأس والاكتئاب بدرجاته المتفاوتة، تلك الحالة التى تأبى الرحيل، وتمسك بتفاصيل الحياة، وكأنها خارطة طريق تحدّد المسار الجديد الذى يجب التأقلم معه، والتكيّف مع معطياته، لكن الانخراط فى اليأس أكثر ما يشغل البال فى عالم متغيّر سريع لا ينتظر أحداً. أصبحنا نشعر بالجوع إلى الضحكة من القلب والنظر إلى المستقبل بشىء من التفاؤل، كل ما يدور حولنا يسحبنا إلى الأسفل، فالمقاومة فى أضعف حلقاتها، اعتدنا أن نفيق كل يوم على كارثة إنسانية أو سياسية أو مجتمعية، خارت القوى وتهاوى اليقين، وتعوّدنا على الأخبار المأساوية مع كل طلعة شمس، ولم يكن انتحار طالب الهندسة من أعلى برج القاهرة الذى أثار انتحاره ردود فعل متفاوتة وجدلاً واسعاً، حالة دخيلة على المجتمع، فهناك العشرات الذين نسمع عن انتحارهم لأسباب مختلفة، كان الأولى الالتفات إلى دوافعهم، وليس تكفيرهم وجلدهم، لكننا لم نعد نلتفت لتشريح الأسباب والمسبّبات، فقد تجاوزنا مرحلة الدهشة والاستغراق فى استدعاء التفاصيل وإلقاء اللوم والسجال الدائر هنا وهناك، ولم يعد الجوع بمفهومه التقليدى ما يشغلنا، لأنه تجاوز نطاق ملء البطون، ليصبح حالة من البحث عن الاستقرار المعنوى والهدوء الروحانى، لذا كان لافتاً ما خرج عن دار الإفتاء لتحسم الجدل، باستنكارها تكفير المنتحر، ومن يطلق الأحكام الجزافية «كأنهم حراس على الجنة»، وهو تغيير نوعى فى المفهوم السائد حول تكفير المنتحر يدعونا إلى التأمل، فمن لم يقدم على الانتحار يجنح نحو الإلحاد، وازدادت ظاهرة الملحدين فى الأعوام الماضية بشكل لافت. إنه جرس إنذار لظواهر باتت تهدّد المجتمعات واستقرارها، نبّهت إليه الدكتورة سهير لطفى الرئيس السابق للمركز القومى للبحوث الاجتماعية والجنائية، حين تحدّثت عن ظاهرة الانتحار خلال الفترة الأخيرة. وأشارت إلى أنه يجب دراسة الشخص المنتحر والأسباب التى أدت إلى انتحاره، فالانتحار لا يرتبط بالغنى والفقر، لكنه مرتبط بالشخص نفسه والمجتمع المحيط به. الشخص قد ينتحر لعدة أسباب، وليس لسبب واحد فقط، والانتحار فى مجتمعاتنا يكون نتيجة اضطرابات اجتماعية ونفسية يمر بها المنتحر.
الانتحار ظاهرة عالمية، ليست قاصرة على مجتمعاتنا، فقد ازدادت معدلات الانتحار فى العالم، ليكون هناك شخص واحد منتحر كل 40 ثانية على مستوى العالم، حسب ما ذكرته منظمة الصحة العالمية فى سبتمبر الماضى، وأشارت إلى أن قرابة 800 ألف شخص فى المجمل يقدمون على الانتحار سنوياً، أى أكثر ممن تقتلهم الأمراض أو الحروب أو جرائم القتل. نحن بحاجة إلى الالتفات إلى ظاهرة «الجوع غير التقليدى»، جوعنا للأمان والاستقرار النفسى والإنسانى والاجتماعى، الإحساس بالاطمئنان الذى بات ضرورة ملحة تحتاج إلى إعادة النظر فى كل ما يحدث، والتعامل معه بعين الرحمة والإنسانية التى بدأت تتلاشى تحت وطأة الضغوط المستمرة وفقدان اليقين، أن نزرع الأمل خير ألف مرة من التكفير والترهيب والبحث عن أسباب نتكئ عليها للتنصّل من المسئولية الأخلاقية والأدبية والاجتماعية.