من بديهيات الحكم أن يكون الحاكم عاقلاً، مُعافى فى بدنه وفى ذهنه، ومالكاً لزمام أمره، ولا يعقل أن يكون المرء عاجزاً فى بدنه نتيجة توقف فى جزء من المخ، وفى الآن نفسه متقداً فى ذهنه وقادراً على الحكم، وقيادة سفينة الوطن فى بحر مضطرب.
أما فى الجزائر، وفى نهاية عهدة بوتفليقة الثالثة وإقدامه على عهدة رابعة، أى ولاية جديدة لخمس سنوات أخرى ليتم بها عشرينية كرئيس للبلاد، فإن الأمور تبدو مختلفة كثيراً عن أى بديهية معروفة، فالرئيس الذى احتفل فى الثانى من مارس الجارى بعامه الـ77، يرى كما جاء فى رسالته للشعب الجزائرى مطلع الأسبوع الحالى أن عجزه البدنى الذى تقوض نتيجة إرهاقه فى الحكم، وتلبية نداء الواجب طوال سنوات عمره الماضية، لا يمنعه من الترشح تلبية لطلبات الجزائريين الذين يرون أنه الأصلح ولا يثقون فى أحد غيره، ومتعهداً بأن تكون سنوات حكمه الجديدة، إن نال تزكية الشعب وتطوّق بثقتهم بمثابة قطيعة مع الماضى وتصدٍ لكل أشكال الأنانية والأثرة التى تقوض مجتمع التكامل والتواد والتعايش.
والحق أن رسالة الرئيس بوتفليقة التى قرأها أحد وزرائه احتوت على عبارات جذابة ورنانة، وصيغت بشكل عاطفى يوحى، بل يؤكد، أن الرجل الذى لن يشارك فى أية حملات انتخابية واثق تماماً من الفوز، ومن وقوف غالبية الشعب الجزائرى وراءه، وواثق تماماً بأن رصيد حكمه فى السنوات الخمس عشرة الماضية رصيد إيجابى، يعفيه تماماً من كل متطلبات الحملات الانتخابية. هنا تبدو المفارقة الكبرى، فإذا أخذ المرء بأسباب المنطق العقلى الصرف، فسوف يواجه معضلة البحث عن سبب منطقى يفسر ثقة الرئيس بوتفليقة فى نيل ولاية رابعة بمثل هذه السهولة، ويقابله سبب منطقى آخر يتعلق بتفسير تأييد الغالبية لهذا الترشح، فى الوقت الذى يعلم فيه الجميع داخل الجزائر وخارجها أن بوتفليقة، ومنذ إصابته قبل عام بجلطة دماغية أقعدته عن الحركة عدة أشهر، ولم تسلم منها أجزاء فى بدنه حتى الآن، غير قادر على الحركة الطبيعية، وأن الأمر مرشح لمزيد من عدم الحركة فى الأشهر المقبلة كنتيجة طبيعية لنوعية المرض، وبالتالى فإن القدرة الذهنية المطلوبة للحكم واتخاذ القرارات ليست مؤكدة، ومع ذلك فثمة قبول شعبى بهذا الوضع، وليكن ما يكون.
الرئيس بوتفليقة الذى تحدث كقائد جسور، ألقيت عليه مسئولية كبرى ولا مجال للفرار منها، هو نفسه الذى قال فى 8 مايو الماضى بأن «جيلى طاب جنانو»، أى أن جيله قد انتهى أمره، ولا بديل أمامه سوى إفساح المجال لقيادات أخرى وأجيال أخرى، وهو نفسه الذى أكد أن نداءات الشعب هى السبب الرئيس لترشحه هذه المرة ليكون فى خدمة الوطن. وهو نفسه الذى وعد الشعب الجزائرى فى حملته الانتخابية قبل خمس سنوات بأن يكتب دستوراً عصرياً يتماشى مع متطلبات الديمقراطية، والمطالب الشعبية والحقوق الاجتماعية، وإذا به يعيد الوعد نفسه هذه المرة، ولكن وفق صيغة أقل طموحاً تمثلت فقط بالوعد بوضع دستور جديد، والأهم من كل ذلك الوعد بأن يستمر الاستقرار ويصون البلاد من الاضطراب ووقايتها من التهديدات. تماماً كما كان الرئيس على عبدالله صالح يقدم الوعد لشعبه تلو الآخر، مؤكداً مطلع 2011، وفى خضم التغييرات الحاسمة فى مصر وتونس، أنه لن يترشح مرة جديدة، وأنه فهم الرسالة جيداً ولن يسمح لأحد بأن يجز شعرة واحدة من رأسه، ولكن بعد أيام قليلة تراجع عن وعده، وكان ما كان من شعبه، مجبراً إياه على الخروج تماماً من السياسة اليمنية غير مأسوف عليه.
قد يقول قائل إن الجزائر بلد مؤسسات، وإن عجز الرئيس البدنى لن يؤثر كثيراً فى أداء هذه المؤسسات. وهو قول تردد بأشكال مختلفة فى الصحافة الجزائرية من قبل هؤلاء الذين لا يرون فى الجزائر بديلاً لبوتفليقة. الأمر الذى يذكرنا بما كان المصريون يسمعونه فى السنوات الأخيرة من حكم مبارك. ثم جاءت الأحداث على عجل لتثبت أن الشعوب قادرة على تغيير كل المقولات الزائفة، ولديها أيضاً قدرة على الفرز والإبداع وصنع القيادات، وبالقطع فإن الجزائريين لديهم بدائل عديدة من رجال الدولة الذين يستطيعون قيادة البلاد إن تُركت لهم فرصة المنافسة الشريفة، ولم تقف أمامهم قوى المصالح السياسية والعسكرية التى ترفض التغيير وترفض أن يمارس الشعب حقوقه فى الاختيار والفرز. نحن أمام مصالح متشابكة وتحالفات ظاهرة، وباطنة تجمع سياسيين ورجال أعمال وقادة عسكريين يرون أن استمرار بوتفليقة أياً كان وضعه الصحى، وعجزه البدنى يعنى ببساطة استمرار النفوذ والمصالح والفساد وغياب المحاسبة والتحكم فى موارد البلاد. والغالب أن هذه التحالفات المصلحية لديها قوة إقناع كبرى لشعب يبدو حريصاً على استقراره مقابل التخلى عن فرصة للتطور الديمقراطى من أجل التغيير السلمى الهادئ. وهو حرص نابع من تخوفات الانزلاق مرة ثانية للمواجهات والاحتراب الأهلى الذى عاشته البلاد طوال عقد التسعينات من القرن الماضى، وأنتج آلافاً من القتلى والمصابين، وذكريات يسودها الألم والدموع لكل بيت فى الجزائر.
نحن هنا أمام مشهد مرت به عدة مجتمعات عربية، وثبت فشله تماماً، فمبارك الذى حكم 30 عاماً متصلة، رافعاً شعار الاستقرار، انتهى إلى جمود اجتماعى وتكلس نخبوى وتراجع اقتصادى وتردٍ أخلاقى وعلمى وفساد مركب، وهى العناصر التى ثار عليها المصريون وأسقطوها، تماماً كما حدث فى ليبيا وتونس واليمن، فالشعوب قد تبدو أحياناً ساكنة ومقتنعة بما يصب فى آذانها، ولكنها تفاجئ الجميع بشجاعتها وقرارها بالتغيير وتحمل الثمن. صحيح هنا أن تجربة التحول وإعادة البناء التى مرت بها، وما زالت، كل من مصر وتونس وليبيا، وحالة سوريا المأساوية والمستمرة منذ أكثر من ثلاث سنوات، قد تعطى مبرراً بأن التغيير الناتج عن إرادة شعبية ثورية يتضمن دائماً قدراً من المعاناة والتضحيات، وبالتالى تصبح المقارنة السطحية فى صالح شعار الاستقرار والجمود، أما المقارنة الموضوعية، فتكون دائماً لصالح التغيير وفتح الآفاق أمام القوى الجديدة والأجيال الشابة، وبالقطع فإن الجزائريين ليسوا استثناءً من حركة التاريخ، والسؤال هو: مَن يدرك هذا قبل أن تثور العاصفة؟