تناولنا فى المقالات السابقة العلاقة الوثيقة بين القانون بوجه عام والسياسة. ويمكن القول بأن هذه العلاقة أكثر وضوحاً فى فرعين من فروع القانون، هما القانون الدستورى والقانون الجنائى. وفيما يتعلق بالقانون الجنائى على وجه الخصوص، يمكن رصد بعض جوانب هذه العلاقة. وللتدليل على تأثير الظروف السياسية فى القانون الجنائى، تجدر الإشارة إلى أن قانون العقوبات الفرنسى الحالى صدر عام 1992م، وبدأ العمل به اعتباراً من أول مارس 1994م. وإذا اقتربنا من واقع إصدار هذا القانون، نجد وراء إصداره سببين رئيسيين: (الأول) سياسى، يرجع إلى رغبة النظام الاشتراكى فى أن يُبرز دوره فى المجال القانونى، وذلك بإصدار قانون عقوبات جديد يستجيب لقيم ومتغيرات العصر، وليحل محل تقنين نابليون الذى بلغ من الكبر عتياً وأصبح أكبر معمر بين التقنيات المطبقة فى العالم. كذلك، رغبة الحكومة الاشتراكية فى أن يصدر هذا التقنين، متضمناً المبادئ الأساسية التى تؤمن بها. (الثانى) يرجع إلى الرغبة فى التغيير تأسياً بما حدث ويحدث فى الدول الأوروبية المجاورة التى أصدرت تشريعات عقابية حديثة، أو تعد مشروعات تمهيداً لإصدار تقنيات جنائية جديدة. وقد عبّر عن هذه الرغبة وزير العدل فى الحكومة الاشتراكية القائمة عند إعداد مشروع القانون «Robert Badinter» بقوله: لقد حان الوقت ليكون لدى الأمة الفرنسية قانون عقوبات حديث يعبّر عن القيم المعاصرة لحضارتنا.
وفى فرنسا أيضاً، غالباً ما تتضمن البرامج الانتخابية للمرشحين للرئاسة الفرنسية إجراء بعض التعديلات على قانون العقوبات. فعلى سبيل المثال، وفى برنامجه الانتخابى سنة 1974م، تعهّد الرئيس الفرنسى الأسبق «فاليرى جيسكار ديستان» بإلغاء تجريم الزنا. وبالفعل، وبعد نجاحه فى الانتخابات الرئاسية، وفى الحادى عشر من يوليو 1975م، صدر قانون بإلغاء هذه الجريمة، بحيث لم يعد ثمة عقوبة جنائية عليها، مع إبقاء النظرة إلى هذا السلوك باعتباره خطأ مدنياً يجيز الطلاق. كذلك، تضمّن البرنامج الانتخابى للرئيس الفرنسى الراحل «فرانسوا ميتران» -ضمن بنوده المتعددة- إلغاء عقوبة الإعدام. وبالفعل، وعلى أثر نجاحه فى الوصول إلى سدة الحكم، صدر القانون رقم 81- 908 بتاريخ 9 أكتوبر 1981م بإلغاء عقوبة الإعدام. وفى مصر، وفى عام 2004م، وقبل ترشحه فى أول انتخابات رئاسية بطريق الاقتراع المباشر بين أكثر من مرشح بدلاً من نظام الاستفتاء الذى كان معمولاً به قبل ذلك، وعد الرئيس الأسبق محمد حسنى مبارك بعدم حبس الصحفيين فى جرائم الرأى. وفى كلمته بالجلسة الافتتاحية للمؤتمر الرابع للصحفيين الذى نظمته نقابة الصحفيين يوم 23 فبراير 2004م، والتى ألقاها عنه وزير الإعلام آنذاك صفوت الشريف، أكد الرئيس الأسبق أنه «لن يُسجن أى مواطن فى مصر مرة أخرى بسبب رأى منشور». وبعد مرور أكثر من عامين على هذا الوعد، وتحديداً فى يوليو 2006م، صدر القانون رقم 147 لسنة 2006م بتعديل بعض أحكام قانون العقوبات.
كذلك، جدير بالذكر أن ثمة تقسيماً للجرائم إلى سياسية وغير سياسية. ونعتقد أن تحديد أساس هذا التقسيم وفهم السياسة التشريعية للعقاب على الجريمة السياسية مهم وضرورى لكل سياسى، حتى يستطيع فهم وجهات نظر المجتمع الدولى إزاء الآلية التى يتم من خلالها التعامل مع الجرائم السياسية. وقد اعتُبرت الجرائم السياسية منذ زمن بعيد من الجرائم المستثناة من التسليم. ويتم النص على ذلك عادة فى اتفاقيات التعاون القضائى بين الدول، وقد استقر هذا الشرط حتى أصبح عرفاً دولياً لا يحتاج إلى نص. ومن ثم، فإن تطبيق هذا الحكم يستلزم تحديد ضابط الجريمة السياسية، وقد يكون من الضرورى تضمين الاتفاقيات الدولية بشأن التعاون القضائى نصوصاً صريحة تحدد معيار الجريمة السياسية التى يحظر فيها التسليم. ولعل ما يعنينا فى هذا الصدد هو مدى اعتبار الجرائم الماسّة بأمن الدولة، وتحديداً الجريمة الإرهابية، من الجرائم السياسية التى يحظر فيها التسليم. وتجدر الإشارة هنا إلى أن العديد من الاتفاقيات الدولية تنص صراحة على عدم اعتبار الإرهاب جريمة سياسية. وبدوره، فإن الإعلان الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة سنة 1996م بشأن التدابير الهادفة للتخلص من الإرهاب الدولى اتجه إلى عدم اعتبار الجرائم المرتبطة بالإرهاب جريمة سياسية. وتضمّن قرار مجلس الأمن رقم 1373 لسنة 2001م عدم الاعتراف بالمزاعم التى تستند للبواعث السياسية كأساس لرفض تسليم الإرهابيين. وهكذا، فإن المواثيق الدولية جلها تدعم موقف مصر فى طلب تسليم الإرهابيين الفارين إلى الخارج، وتفضح موقف الحكومتين التركية والقطرية فى إيوائهم والامتناع عن تسليمهم. وللحديث بقية.