صديقى العزيز، أود ألا أكون متطفلاً بهذا الخطاب الذى أكتبه إليك لأفتح معك نقاشاً حول أمر شديد الخصوصية، حول حياتك التى سئمت منها وتراودك أفكار بين الحين والآخر بأن تضع حداً لها وتكتب مشهداً ختامياً لهذه المهزلة التى تُسمى: الدنيا.
أنا لا أعرف تفاصيل حياتك، ولا أعرف الدوافع التى تقودك للتفكير فى هذا القرار، وليس عليك أن تبوح، وليس لى أن أفهم. لكنى أريد أن أخبرك بهذه القصة، قصة شاب ربما يتشابه ما لديك مع ما كان لديه، وربما تجد ما يضيف لك شيئاً، أو لا تجد إلا سخافة هذا الخطاب وركاكة كاتبه.. على كل الأحوال، سأنهى هذه الأسطر القليلة، ثم أرحل بعدها متمنياً ألا أكون قد أثقلت عليك.
فجر الثامن عشر من يناير 2010، كان هناك هذا الشاب الذى يجلس على أريكته أمام طاولة صغيرة فى ليلة شديدة البرودة يسابق الزمن للانتهاء من مراجعته النهائية والدخول بعد ساعات قليلة امتحان الفرقة الرابعة والأخيرة من الجامعة. الشاب على قرب خطوات أخيرة من تحقيق حلمه، وحلم أبيه، فى التخرج والعمل وإثبات الذات.
كان الشاب تجمعه بأبيه علاقة من نوع خاص، استثنائية جداً، كانا صديقين وفيين قريبين من بعضهما إلى أقصى حد. وبينما هذا الشاب يمر بين صفحات الكتاب الذى أمامه، سمع صوتاً متحشرجاً يتأوه به والده من وراء باب الغرفة المجاورة، انتظر ثوانى قليلة؛ فلما ارتفع الصوت انطلق من مكانه ليجد الوالد الصديق يلفظ أنفاسه الأخيرة.
حاول الشاب أن يفعل كل ما فى وسعه، حاول إفاقته، وضع الماء البارد على وجهه، أخذ يدلك عضلة قلبه، يقبّله، يحتضنه، يصرخ فى أذنيه، لكن كل المحاولات باءت بالفشل. الرجل الطيب الكبير مات فجأة دون سابق إنذار ودون كلمة وداع واحدة. لم يقبل الشاب بالأمر ولم يصدقه، نظر إلى كل الذين حوله، فأخبروه بدموعهم أنه الموت الذى لا حول فيه ولا قوة، فأخذ أباه وانتقل به مسرعاً إلى المستشفى القريب من البيت ومعه الشقيق الأكبر، فأخبرهما الطبيب الخبر نفسه: قُضى الأمر.
ظل الشاب ببراءة الأطفال، أو سذاجتهم، لا يصدق ما حدث، فلجأ إلى من بيده الأمر بعيداً عن الأهل والجيران والأطباء.. لجأ بسؤاله إلى رب الناس، طالباً منه يحيى أباه، أن ينعش قلبه ويعيده إلى الحياة. كان جاداً فى طلبه، تحدّث إليه حديثاً قاطعاً واضحاً: ألست رب المعجزات؟.. أحدث لى معجزة الآن، أعده، أحيه. كرَّر رجاءه أكثر من خمسين مرة.. لكن شيئاً لم يحدث. سأل الشاب ربه: ألم تسمعنى؟.. أم لا تريد أن تستجيب لى؟.. فلم يجئه رد.. أعاد رجاءه وأعاد سؤاله وأعاد حديثه فى أذن أبيه.. لكن لم يجئه رد أيضاً!
موت الأب لم يفجر فى قلب الشاب حزناً فحسب، لكنه فجر طاقة كبيرة من الغضب، لإحساسه بأنه فى لحظة رجاء شديدة استثنائية تخلى عنه الجميع.. حتى الرحمن الرحيم لم يستجب لدعائه. شعر الابن بشىء من اللا عدالة، واللا أمل، واللا فائدة من هذه الحياة طالما أن النهاية بهذا الشكل، وطالما أن من نحبهم سيرحلون هكذا، فى غمضة عين. فكر الشاب فى الرحيل طواعية، فكر فى اللحاق بأبيه، فكر فى ألا يورث هذا الشعور لابنه من جديد، لكن لسبب ما لم ينتحر الشاب.. ربما السبب هو أن يجلس اليوم بعد عشر سنوات من تلك الواقعة ليكتب هذا الخطاب إليك، ويخبرك أنه كان صادقاً لكنه لم يكن محقاً. فالحياة يجب أن نتقبلها كما هى، بلحظات الوجع ولحظات الفرح أيضاً، ويخبرك أن الشىء الذى لا يمكننا تغييره، ربما يمكننا أن نضحك منه.. هل تعرف صديقى العزيز؟.. أنا الآن أضحك عندما أتذكر ليلة وفاة أبى!