لدى يقين أنه لا شىء يحدث بالصدفة البحتة.. بل إنه لا وجود لتلك الكلمة من الأساس.. حتى فى أكثر اللحظات التى تشعر فيها أن الترتيب المسبق غير موجود.. أعرف جيداً أن الله يرتب الأمر من عنده بمقدار محسوب دقيق غير قابل للاهتزاز مطلقاً..! لهذا السبب لم يمكننى أبداً اعتبار عرض المسلسل التاريخى «ممالك النار» -الذى يرصد فترة اتساع الأطماع التركية فى الشرق- فى ذلك التوقيت تحديداً هو صدفة دون ترتيب.. خاصة ونحن نشهد الكثير من التصرفات التركية عبر الأعوام السابقة تشى أن العثمانى المغرور يحاول أن يحذو حذو أجداده.. وأنه يحلم أن يكرر فعلة جده سليم الأول وإعادة عصر الخلافة الزائلة ولكن بمفهوم عصرى تقتضيه التغيرات الحالية..!
المسلسل تسبب فى غضب شديد فى أوساط السياسة التركية.. للدرجة التى جعلت ياسين أقطاى، مستشار «أردوغان»، ينشر العديد من التدوينات على مواقع التواصل يهاجم فيها المسلسل ويشكك فى أحداثه التاريخية -الدقيقة فى معظمها.. الأمر الذى يدل على أنه قد أوجعهم كثيراً.. وأظهر الحقيقة الدموية للدولة العثمانية التى يحاولون تزييفها طوال الوقت..
لقد أثبتت أصوات الصراخ التى ارتفعت من تركيا أن تأثير المسلسل أكثر مما كان يتوقع صانعوه.. وأن أسطورة العدل والفتح التى روجت لها «الأستانة» عبر قرون قد بدأت فى الانهيار تحت وطأة الحقيقة المجردة..
الطريف أن عرض العمل الفنى قد تزامن مع اتفاق مشبوه ومثير للجدل بين الحكومة التركية وحكومة الوفاق الوطنى الليبية.. الأمر الذى يؤكد أن التركى الأرعن يحاول بسط نفوذه فى المتوسط بأى ثمن.. وأن أطماعه قد بدأت فى الازدياد فى ظل ظهور قوى لنفوذ الدولة المصرية تحديداً فى المنطقة.. وفى ظل قيادة وطنية تسعى لتأمين مصالح الوطن فى قوة وحزم.. كان أكثرها حكمة وبعداً للنظر تلك الاتفاقات التى تمت لترسيم الحدود البحرية مع قبرص واليونان لإثبات حق مصر فى التنقيب عن الغاز.. والتى أثارت جنون «أردوغان»، الذى ما زال يتألم من صفعة التخلص من نظام حكم الإخوان فى مصر على يد النظام المصرى حتى الآن.. بالإضافة إلى اتفاقيات التسليح التى تزامنت مع بداية التنقيب عن الغاز فى قاع المتوسط.. والتى أثبتت أن القيادة المصرية تحمل رؤية بعيدة المدى..
ربما كان الفارق بين العمل التاريخى وبين الحقيقة الواقعة الآن أن مصر لم يعد يحكمها المماليك.. بل إن النظام فى العصر الحالى يعمل بشكل مختلف.. وأن تحركاته فى ملف المتوسط تخضع لدبلوماسية مرنة وماهرة.. كما أن «القاهرة» لم تعد تلك المدينة الضعيفة التى يضربها الفقر والمرض.. ومصر لم تعد الدولة المتهالكة المريضة..
لقد قرر الخليفة المزعوم أن يلعب دور القرصان البحرى.. وأن يخرج من حدوده بصفاقة باحثاً عن الغاز الذى يثير جنونه.. بل وأن يضرب عرض الحائط كل الانتقادات والغضب الذى تلا توقيع تلك الاتفاقية المريبة مع حكومة أقل ما يقال عنها أنها غير أمينة على الأراضى الليبية..!
لقد بدأت النهاية لأسطورة الخلافة التركية التى عاشت قروناً طويلة.. وأثبتت القوة الناعمة أنها تستطيع أن تفعل ما لا يقدر على فعله أقوى الأسلحة.. كما أعتقد أنها قد بدأت أيضاً للنظام التركى الذى يسعى لنشوب حرب أعتقد أنها آتية لا محالة.. الفارق أن الدولة المصرية قد باتت مستعدة جيداً لها.. وأن أى حماقة منه ستؤدى إلى الإطاحة برأسه الذى حاول الحفاظ عليه باعتقال آلاف المعارضين وغلق الصحف ووسائل الإعلام.. بل وإنه سيدفع ثمن مساندته وحمايته لأنظمة معادية لسيادة الدولة المصرية على أرضه..
سيحاول الرئيس التركى مراراً استفزاز النظام المصرى فى الأيام القادمة كثيراً.. ولكننى أعتقد أن صدمته ستصبح شديدة.. حين يكتشف أنه يتعامل مع نظام يحرص على سيادة الدولة.. أكثر بكثير من حرصه هو على كرسى خلافته المزعومة!