لم يكن ما لاقاه عليه الصلاة والسلام بالطائف بأقل مما لاقاه بمكة، فيتنطع عبد يا ليل ويقول للنبى ساخراً: «لأقطعن وأهتكن ثياب الكعبة إن كان الله قد أرسلك»!.. ويقفى شقيقه مسعود مستهزئاً: «أما وجد الله أحداً يرسله غيرك»؟!، بينما يقول ثالثهم حبيب: «واللات لا أكلمك أبداً.. لئن كنت رسولاً من الله كما تقول لأنت أعظم حقاً من أن أكلمك، ولئن كنت تكذب على الله لأنت أشر من أن أكلمك»..! ثم لا يكتفى هؤلاء الإخوة بذلك، فيحرضون عليه السفهاء والغلمان فيتابعونه فى أزقة الطائف، ويقعدون له فى طريقه صفين من المتأهبين بكل الأدوات لإيذائه، يسبونه ويصيحون به، ويقذفونه بالأحجار، ولا يرفع عليه السلام رجلاً ولا يضع رجلاً إلاَّ رضخوها بالأحجار حتى دميت رجلاه وتخضبت نعلاه بالدماء.. كلما أذلقته الحجارة، يقعد عليه الصلاة والسلام إلى الأرض، فيأخذون بعضديه ويقيمونه فإذا مشى يرجمونه وهم يتضاحكون مستهزئين، والنبى، صلى الله عليه وسلم، لا يستطيع أن يستخلص نفسه منهم إلاَّ بعناء شديد ومشقة بالغة.. حتى استطاع بعد طول معاناة أن يفىء إلى حائط بستان على مرمى البصر، ويرتمى مكدوداً مخضباً بالدماء تحت ظل كرمة، وتهتاج مشاعره من الضيم الذى يلاقيه، والأذى الذى يلاحقه، ممن أراد هدايتهم إلى الله الواحد الأحد، فلا يصادف منهم إلا العناد والعذاب الذى تنوء به الجبال الرواسى.. فتسيل عبراته، وهو يتجه إلى السماء داعياً ربه: «اللهم إليك أشكو ضعف قوتى، وقلّة حيلتى، وهوانى على الناس.. يا أرحم الراحمين.. أنت رب المستضعفين وأنت ربى.. إلى من تكلنى؟! إلى بعيد يتجهمنى، أو إلى عدو ملّكته أمرى؟!!. إن لم يكن بك غضب علىَّ فلا أبالى.. ولكن عافيتك هى أوسع لى. أعوذ بنور وجهك الذى أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، من أن تنزل بى غضبك أو تحل علىّ سخطك. لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلاَّ بك»!
فى طريقه الشاق الطويل عائداً فريداً وحيداً إلى مكة، بعد أن لاقى ما لاقاه من عنت ثقيف وتعديات واستهزاء غلمان الطائف وسفهائها.. طفق عليه السلام يسائل نفسه مشفقاً كيف سيستقبله طواغيت قريش وقد علموا ما لا بد قد تناهى إليهم من أمر ما فعلته ثقيف وسفهاء الطائف به.. وإنه عليه السلام لفى طريق عودته حزيناً مهموماً من أفاعيل من أراد لهم الهداية بإبلاغهم رسالة ربه فقابلوه بالصد والعناد والنكير والإعنات والعدوان والاستهزاء.. يلم به هاتف من الوحى أنه إن شاء فإن الله يطبق على قومه الأخشبين (الأخشب من الجبال الخشن الغليظ الحجارة)، ويخسف بهم الأرض.. ولكنه صلى الله عليه وسلم لا يملك بفيض رفقه وكرمه وحلمه ورحمته، إلا أن يقول لجبريل، عليه السلام: «بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله عز وجل ولا يشرك به شيئاً».
عبر كل مشاهد السيرة المحمدية، إلى أن أتم رسالته عليه الصلاة والسلام قبل أن يلاقى ربه، لم تنقطع أو تهدأ مؤامرات الكفار والمشركين، أو صدودهم ونكالهم وعنادهم وتربصهم بالدعوة وبالرسول وبالمسلمين.. لا تهدأ إن هدأت، إلاَّ لتستأنف.. اغتنموا رحلة الإسراء والمعراج ليشنوا حملة ضارية من النكال والتشكيك، واعتقدوها فرصة للنيل من الدعوة والداعى، فلما خاب سعيهم، وانقلب تآمرهم عليهم، واشتد الإيمان برسالة النبى، لم تيأس قريش، ولم تفارق غطرستها وعنادها وصلفها وغرورها وصدها عن سبيل الله.. وجعلت تتعقب الدعوة بخارج مكة كما تعقبتها بمكة، وجعلت تلاحق النبى فى جولاته ولقاءاته بتجمعات الحجيج فى موسم الحج.. فأرسلت من ورائه أبا لهب ليسخر منه للقبائل، ويحرض الناس عليه، ويتابعه منادياً بين الحجيج: «يا قوم إن هذا الرجل إنما يدعوكم أن تسلخوا اللات والعزى من أعناقكم وحلفائكم من الجن بنى مالك بن أقيش إلى ما جاء به من البدعة والضلالة، يا أيها الناس إنه كاذب فلا تطيعوه ولا تسمعوا منه»!.. لا يلتفت أبولهب إلى ما فى كلماته هو من ضلالة، ومثله أبوجهل الذى جعل بدوره ينادى فى الناس: «يا أيها الناس، لا يغرنكم هذا عن دينكم، فإنما يريد أن تتركوا عبادة اللات والعزى.. يريد أن تدعوا عبادة آلهتكم وما ورثتموه عن آبائكم وأجدادكم».
وأنت تلحظ أن الداء الذى أصاب الأمم من قبلهم، هو ذات الداء الذى أصابهم.. لا يدفعهم فيه إلاَّ صلفهم وعنادهم، وأنهم على هذا وجدوا آباءهم، فعلوا كما فعل قوم إبراهيم من عبادة أصنام من صنعهم، وإجلال أحجار وأوثان لا تضر ولا تنفع، واعتبار هذه الضلالة ديانة تعتنق ما دامت موروثة بحكم العادة عن الآباء والأجداد!! وهم لذلك أنكروا البعث، وقالوا ما هى إلاَّ حياتهم الدنيا يموتون فيها ويحيون وما يهلكهم إلاَّ الدهر، ويستكثرون أن تنزل الدعوة على محمد وتترك الوليد بن المغيرة فى عزه وجاهه ومنعته، وهو سيد قريش بغير منازع.. أو مسعود بن عمرو الثقفى، سيد ثقيف وعظيم الطائف الذى لا يطاوله مطاول، يحسبون رسالات الأنبياء سباقاً على جاه الدنيا ولا يرون ما فيها من اصطفاء وهداية.. وتنزل على النبى، صلى الله عليه وسلم، من سورة الجاثية قول الحق عز وجل: «وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِى تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنتُمْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ* وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُم مَّا نَدْرِى مَا السَّاعَةُ إِن نَّظُنُّ إِلَّا ظَناً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ» (الجاثية 31 - 32).
لا تدرك عقولهم فى عنادهم الذى غَلقَّ عقولهم أن أمر الحق سبحانه وتعالى إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون، فيستهولون أن يحيى العظام وهى رميم، ويجاهرون محمداً بالسخرية والاستهزاء، فيتلو عليهم صلى الله عليه وسلم فى ثقة واطمئنان قول ربه عز وجل: «أَوَلَمْ يَرَ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ* وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِىَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِى الْعِظَامَ وَهِىَ رَمِيمٌ* قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِى أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ* الَّذِى جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ* أَوَلَيْسَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ* إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ* فَسُبْحَانَ الَّذِى بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَىْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» (يس 77-83)..
وبدلاً من أن يتأمل هؤلاء الكفار ويكفوا عن عنادهم ويعملوا عقولهم، يلاحقون النبى بالنكال والإيذاء.. ويبعثون بالنضر بن الحارث وعقبة بن أبى معيط إلى أحبار يهود يثرب ليدلوهم على ما يعجزونه به، فيشير عليهم الأحبار بأن يسألوه عليه الصلاة والسلام عن فتية ذهبوا فى الدهر الأول، ما كان أمرهم؟.. وعن رجل طواف قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها، ما كان نبؤه؟.. وعن الروح ما هى؟
ولكن النبى، صلى الله عليه وسلم، يجيبهم بما تنزلت به عليه الآيات الست والعشرون الأولى من سورة الكهف فى شأن الفتية الذين ذهبوا فى الدهر الأول، وبما نزل بالآيات 83-86 من سورة الكهف بنبأ ذى القرنين الطواف الذى بلغ مشارق الأرض ومغاربها، ثم يجيبهم عن الروح بقول ربه: «وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّى وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً» (الإسراء 85).
فلما خاب سعيهم، هيأ لهم شيطانهم أن يسعوا لإغراء محمد، صلى الله عليه وسلم، بكل المغريات، مقابل الكف عن شتم آلهتهم التى يعبدونها من دون الله، وعدم ذكرها بسوء، فانتدبوا لمحادثته الوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، وأمية بن خلف، والأسود بن عبدالمطلب بن عبدالعزى.. فطفقوا يذكرونه بما سبق أن عرضوه عليه من المال حتى يكون أغنى رجل بمكة، وبتزويجه من شاء من النساء، وأن يكفوا عنه.. فإذا لم يقبل، فليتفقا على تقاسم عبادة الآلهة، هكذا خامرهم الظن، فيعبد آلهتهم سنة، ويعبدون إلهه سنة، وهكذا دواليك.. فلا يزيد صلى الله عليه وسلم على أن يقول وهو ينصرف ماضياً فى سبيله: «معاذ الله أن أشرك بالله غيره».. وما يكاد صلى الله عليه وسلم يفارق جمعهم حتى يوحى إليه جبريل، عليه السلام، من كلمات ربه: «قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ * وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ* لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِىَ دِينِ» (الكافرون 1 - 6).