عمليتا غسيل، كلتاهما صعبة.. الهموم كما نعلم هى التفكير السلبى المستمر بشأن التهديدات المحتملة فى المستقبل والطرق الممكنة لمعالجتها، وتأتى على هيئة أسئلة داخلية مثل «ماذا لو حصل كذا؟»، وتكرار هذا النوع من التفكير يسبب القلق، الذى ينتج عن التوتر ثم الكآبة. وخلافه، وهو ما يعرف باجترار الأشياء. ونحن نسعى دوماً لغسل همومنا، وهى عملية صعبة، كانوا يشبهونها أحياناً بعملية غسل الملابس (الهدوم)، ربما لتقارب نطق الكلمتين، وربما لأن الثانية كانت صعبة فعلاً، وهى عملية طريفة نعيد استرجاعها كذكرى لطيفة، وفى هذا نفسه غسل للهموم.
لن يعرف معظم مواليد التسعينات فما فوق المعنى الحقيقى لـ«يوم الغسيل». التحذير من هذا اليوم كان يبدأ قبله بثلاثة أيام ويتحول بعدها البيت إلى ثكنة عسكرية لغسل كميات هائلة من الملابس، وسواء كان الغسيل يدوياً (بما فيه من متاعب وشقاء)، أو بغسالة عادية (بما فيها من احتمالات للموت صعقاً)، فلا فرق. هو يوم صعب فى كل الأحوال.
علّمتنى تجربتى البسيطة أن يوم الغسيل أسوأ من يوم الامتحان، وأن الوجود بالبيت فى هذا اليوم يساوى الموت، إما من الملل أو من الملل الشديد! كان الحل أن أختفى؛ كنت أتقمص دور المتشرد (ألعب فى الشارع)، أو أنتقى منفى اختيارياً (أختبئ عند أحد الجيران)، أو أعيش حياة المثقف المكافح (أقرأ كتاباً على شط البحر). فى يوم الغسيل عليك أن تُضيّع وقتك بدلاً من أن تضِيع أنت نفسُك.
ويا ويل الغسيل الأبيض فى هذا اليوم الأسود؛ ففى عملية أشبه بعملية السلخ، يتم وضع قطع الغسيل البيضاء المسكينة فى وعاء تسميه جيل الأمهات «جردل»، ويسميه جيل الجدات «بستلا»؛ هذا الشىء عبارة عن كائن حديدى منقرض كان يوضع على وابور جاز (وهو كائن آخر شبه منقرض) ويتم سلق الغسيل فى عملية «هولوكوست» تسمى «الغلية».. و«شوربة الغسيل» لا تحتوى على مرق أو بهارات، ولكنها شوربة بيضاء اللون بفعل مادة كنا نطلق عليها «البُتاص»، وتقول عنها إعلانات وزارة الصحة «البوتاسا الكاوية»، وعلمياً هى «هيدروكسيد البوتاسيوم»؛ وهى مادة قلوية تذوب فى الماء لتُكوّن محلولاً يشبه اللبن، ولذلك كانت خادعة وتسببت فى قتل وتشويه عدد كبير من الأطفال. بعد هذا ندخل فى مرحلة «العَصر»، وهو يدوى طبعاً، تتكاتف فيه كل الأيدى العاملة فى المنزل.. ثم تأتى مرحلة «النشر»، وعادة لا يكفى المكان فيتبرع أقرب الجيران بتقديم دعم لوجيستى، فتجد ملابس فلانة عند علانة، على أن يتم رد الجميل لاحقاً.
أخيراً نصل مرحلة «التطبيق»، حيث يتم طىّ الغسيل بعناية وتوزيعه على أماكنه دون عناية، فأجد ملابسى فى درج أبى وملابس أبى عند أخى وملابس أخى تضيع فى الزحام، لا يهم، المهم أن دولاباً واحداً يجمعنا كلنا. الغسيل زمان كان له يوم مثل أى ظالم، الآن أصبح له «زرار» مثل أى شىء.. التكنولوجيا وفّرت الكثير لكنها أخذت معها السحر والغموض والمتعة.. ويا ليت غسيل همومنا يصبح فى سهولة غسيل هدومنا.