واحد من الآثار الإيجابية للحلقات النقاشية التى نُظمت فى منتدى الشباب الدولى المنعقد فى شرم الشيخ، أنها تمثل منصة حوار بين مختلف الجنسيات والثقافات من منظور إنسانى يتخطى الحواجز والقيود القائمة فى الواقع، ورغم اختلاف المعلومات التى يقدمها المتحاورون، إلا أنها تعكس فى جوهرها قيمة واحدة، وهى ضرورة التكاتف الإنسانى والفعل الجماعى من أجل مواجهة التحديات والتهديدات التى تواجه الجميع، وإن بدرجات مختلفة ومتباينة من حيث الحدة ومن حيث القدرة على مواجهتها. وفى الجلسة التى شهدت الحوار حول التحديات الراهنة للأمن والسلم الدوليين، تبين للجميع أن قضية الإرهاب وتوظيفه، لا سيما العابر للحدود، ليست قضية عشوائية من حيث مصدرها أو أهدافها، فهى منظومة اخترعتها قوى معينة للإضرار بالمنافسين لها، ثم أصبحت خارج السيطرة ويلجأ إليها كثيرون لتحقيق مصالح بدلاً من خوض صراعات مباشرة. ووفقاً لآخر التجليات فالإرهاب ظاهرة آخذة فى الاتساع والتمدد، والقوى التى تعمل على إذكاء الإرهاب والإرهابيين ما زالت لم تُحاسب بعد، ما يدفعها إلى الاندفاع أكثر وأكثر لتوظيف مجموعات إرهابية وفقاً لمصالحها الخاصة وعلى حساب مصالح الشعوب الأخرى.
ووفقاً لما شرحه الرئيس السيسى فى الجلسة نفسها، فالإرهاب كالوحش الكاسر الراغب فى التدمير والتخريب واستنزاف مقدرات الشعوب والمجتمعات والدول، ومن ثم إبقاؤها فى حال من التخلف، بينما القابعون وراء تربية هذا الوحش وتوظيفه بخبث يتمتعون بالاستقرار والتقدم. وذلك واحد من الآثار التى يبدو أن كثيرين لا يضعونها فى الاعتبار عند النظر إلى الوظيفة الحقيقية للإرهاب وتعقيداتها المختلفة، وهنا يتبادر إلى الذهن تساؤلات عدة، لعل أبرزها، أين مصر من هذه الظاهرة، وأين أمنها القومى، وأين تجرتها الخاصة فى مقاومة هذا «الوحش» الكاسر واللعين، وما الذى يمكن أن تقدمه لأشقائها لمواجهة هذا التهديد المستمر والتحدى الكبير؟
من الصعب الإجابة عن هذه التساؤلات وغيرها بدون الحديث عن مفهوم الأمن القومى، الذى تؤمن به مؤسسات مصر السيادية فى ظل المعادلات الحاكمة الآن للعلاقات الدولية، وما يرتبط بها من دروس يمكن استخلاصها بكل سهولة من نماذج الدول المحيطة بنا، التى تعانى من التخبط والتدمير الممنهج وحروب وصراعات داخلية لأسباب عرقية أو دينية أو طائفية، تمتزج مع حروب وصراعات تجرى بالوكالة نيابة عن دول إقليمية أو قوى كبرى، وفى النهاية يدفع ثمنها الشعب المغلوب على أمره أجيالاً تلو أجيال.
تقليدياً فإن أمن أى دولة وبقاءها وتطورها يكمن فى ثلاثة محاور رئيسية، وهى حماية الإقليم موحداً غير منقوص، والموارد بما فى ذلك الحقوق التاريخية المكتسبة، وأبرزها حقوق المياه العابرة للحدود والموارد البحرية التى يحددها القانون الدولى، ونظام القيم وأسلوب الحياة الذى يرتضيه المواطنون طواعية ويطورونها وفقاً لحاجاتهم بدون إجبار أو إقصاء، وهى محاور ارتبطت بصراعات الدول بعضها بعضاً، والدول هنا تعد كيانات واضحة المعالم يمكن محاسبتها، ويمكن أيضاً تحديد مسئوليتها عن بدء الصراع وعن أسلوب احتوائه وتسويته، بيد أن هذه المحاور لم تعد تكفى فى فهم طبيعة الأمن القومى للدول الراهنة، فطبيعة الصراعات نفسها اختلفت، أو بمعنى آخر أضيفت إليها معايير وأبعاد جديدة لم تكن معروفة منذ ثلاثة أو أربعة عقود، الفضل هنا للعولمة والاتصالات الحديثة والإنترنت، وتحول أساليب الصراع من مباشرة إلى غير مباشرة، وابتداع أساليب جديدة لتدمير الدول المنافسة، وأبرزها الإرهاب والإرهابيون، واستهداف تماسك المجتمعات، وإفشال الأمم والدول وإبقاؤها فى دائرة التخلف، وتحطيم الإرادات من خلال التأثير على معنويات الشعوب عبر الحروب النفسية والشائعات المحسوبة التى تديرها استخبارات كبرى.
هذه الأبعاد الجديدة التى نعيشها يومياً كجزء من الواقع فرضت تحولاً مهماً فى مفهوم الأمن القومى وفى أدوات تحقيقه، ومن الخبرة المصرية بعد يونيو 2013، وكذلك الخبرات الأخرى فى الشرق الأوسط، ثبت أن تحقيق الأمن القومى لأى دولة يتطلب أولاً الحفاظ على كيانها كدولة وطنية لديها مؤسسات وطنية فعالة تدرك التحديات وتواجهها بكل ما لديها من إمكانيات ومهما كانت التضحيات، وتعمل من أجل كل المواطنين وليس جزءاً منهم على حساب الباقين، وثانياً مجتمع يتسم بالوعى الجمعى ويدرك أهمية الحفاظ على الوطن الجامع، ولديه استعداد فطرى لتقديم التضحيات حفاظاً على دولته، وقادر على التمييز بين ما يفيد وطنه وتماسكه وتطوره، وما يسعى للعبث به من أجل تدميره وتسليمه لقوى ظلامية تستهدف الوطن والمؤسسات وتدميرها وإضعافها بغية السيطرة عليها، وثالثاً التفاعل من موقف قوة وثبات ورؤية واضحة مع المتغيرات الإقليمية والعالمية، مع الاستفادة من أبعادها الإيجابية قدر الإمكان، ومقاومة آثارها السلبية بكل ما لدى المجتمع من استطاعة وإمكانيات، رابعاً مراجعات وطنية نقدية فكرياً وسلوكياً بصورة دائمة لغرض تحقيق التقدم ومكافحة مسببات التخلف، خامساً وأخيراً العمل قدر الإمكان فى نطاق إقليمى وعالمى تعاونى لتحقيق الأهداف المتفق عليها لخدمة الإنسانية والمؤسسات العالمية.
هذه الأبعاد الجديدة التى عهدتها مصر لأمنها القومى فى سنواتها الست الماضية تمثل نموذجاً فعالاً ليس فقط لمواجهة الإرهاب ومنظماته، بل أيضاً لإقامة مجتمع الاستقرار والتقدم والعلم والبناء، وهى خبرة يمكن وصفها بأنها الطريق المحتوم الذى لا فكاك منه لكل الدول التى تعانى من التضارب فى السياسات، وفشل المؤسسات، والحروب والصراعات المجتمعية، وغياب الرؤية بشأن المستقبل. والرسالة هنا لا توجه فقط للقائمين على تلك الدول وحسب، بل أيضاً لشعوبها ومجتمعاتها وناشطيها السياسيين ومثقفيها وكل من يستطيع أن يسهم فى بناء بلده على قاعدة حماية الدولة الوطنية والمؤسسات الفعالة والتماسك المجتمعى.
وفى ظنى أن مصر حين تبرز هذه الخبرة بين لحظة وأخرى، فهى بذلك تمارس دورها القيادى الإقليمى بدون تكبر أو استعلاء على أحد، فالهدف المصرى واضح بلا رتوش، فأمن مصر واستقرارها هو من أمن أشقائها العرب والأفارقة واستقرارهم، وأمن تلك الدول الشقيقة واستقرارها هو أيضاً من أمن مصر واستقرارها، وإذا كانت مصر لا تتدخل فى شئون الدول الأخرى كقيمة عليا تتمسك بها فى سياساتها الخارجية، على عكس دول حولنا منها عربية اسماً، وأخرى إقليمية تطمع فى ثروات العرب وفى الهيمنة على مقدراتهم بدون وجه حق، وتتدخل بجرأة وعنجهية لا حدود لها، مستغلة فى ذلك مجموعات محلية قصيرة النظر تفضل لعب دور العميل والخائن نظير الفتات، فعلى الأقل نقدم لهم خبرتنا الميدانية والواقعية، لعل فيها ما يفيدهم فى تجاوز المحن التى يعيشونها ويدفعون من أجلها أثماناً باهظة.