وتأتى سورة «ق» لتحاول أن تسجل لحظات هروب النفس من قيد الجسد البشرى، وبعيداً عن كيمياء وفيزياء هوائها ومياهها وترابها المادى، كما يصف ربنا هذه اللحظات الصعبة، فإن كانت ولادتنا من أرحام أمهاتنا أصعب وأسعد اللحظات، فالطفل يبكى ومن حوله يزغرد، فإن خروج النفس من الجسد الدنيوى يشمل أيضاً أسعد اللحظات لمن رضى الله عنه، فقد رأت النفس مكانها فى الجنة، وأتعس اللحظات لمن حوله، فقد بكوا فقدان جسده فى الدنيا.
وتبدأ سورة «ق» باستعجاب الكافرين من رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم بأنهم يحيون مرة أخرى بعد مماتهم، «أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ»، أى لا يمكن الرجوع مرة أخرى إلى الحياة بعد فناء الجسد، فيرد الخالق سبحانه وتعالى: «قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ»، أى كمية التراب التى شكّلت الجسد، وكانت مائة كيلوجرام فى حياته، ثم أصبح وزنه بعد مماته أقل من كيلوجرام، كما حسبها العالم الجليل د. صالح، بأكاديمية البحث العلمى، فى سلسلة كتبه لتبسيط العلوم، والذى حاول أن يقارن بين وزن الإنسان قبل وبعد وفاته، بل وفصل كمية كل معدن أو عنصر يتبقى منه، كالسيوم أو بوتاسيوم أو صوديوم، وكانت دراسة أثرت فىّ بشدة وأنا طالب بالثانوية العامة.
ثم تأتى الآيات ٩ و١٠ و١١ من سورة «ق» لتشرح للناس إصرار القرآن على الربط بين النبات والإنسان عبر كل السور، «وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ».. ثم تنتهى بالآية: «وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ»، أى إعادة إحياء الموتى بشكلهم كأنفس وليس كأجساد. وهذه الآية تؤكد صحة حديث الرسول صلى الله عليه وسلم أن هذا الماء المبارك هو ماء الحياة الذى ينزل على جزء من الجسد لا يبلى يحفظ فى صفات وشكل وتكوين هذا الإنسان، وهو آخر سنتيمتر من العصعص، فكأنه بذرة محصول فى الأرض ينزل عليها الماء فيخرج الموتى جميعاً أحياء كالجراد يسمعون صوت الداعى فيحيون. ويؤكد ربنا فى الآية «١٥» أننا سنكون فى خلق جديد، نفس بلا جسد ولا روح، متحدياً الكفار.. «أفعيينا بالخلق الأول بل هم فى لبس من خلق جديد» لا يحتاجون فى خلقهم الجديد هذا الأرض ولا تربتها ولا ماءها ولا هواءها، ثم الآية «١٦» تشير إلى قدرة النفس على تسيير الجسد، فتوسوس له نفسه! وتنتقل السورة إلى العلاقة بين عالم الغيب وعالم الدنيا فى الارتباط الوثيق والملاحقة المستمرة لكل عضو فى الجسد البشرى توسوس له النفس بخير أو بشر، فتؤكد أن جنود الله تجاور حبل الوريد، أى الشريان الرئيسى للدم، وعلى كتفينا ملكان يميناً ويساراً يسجلان كل حركة وكلمة، فهما رقيب عتيد، الآية «١٧»، ثم تنتقل السورة إلى لحظات الوفاة: «وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ». ونتوقف هنا عند تعبير «سكرة» وتعبير «سابق»، «وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى» من شدة هول الفزع والعالم الغريب الجديد، وترى اليوم ببصر «حديد» كل عالم الغيب، فهو كالسكير، حى بجسد وخيال بلا عقل، فهو غير متزن ولا يدرى ما حوله.
والبصر الحديد يعنى أنك أصبحت ترى كل عوالم الغيب التى كانت خارج نطاق قدرتنا البصرية البشرية، فأصبح خلق الغيب كلهم أمامك، ترى الملائكة والعرش. وقد يختارهم الله بكلامه ورؤيته، فتكون هى لحظة السعادة الأبدية، حيث لا شقاء ولا عناء إنما نعيم مقيم وسعادة دائمة.
وتكاد سورة «ق» أن تسجل الحوار بين قرين الإنسان الملازم له، ملك من ملائكة الله، يتبرأ منه، فيقول إنه هو الطاغى وإنه لم يأمره بالطغيان الآيات ٢٧، ٢٨، ٢٩. وكما بدأت سورة «ق» بآيات خلق الله السموات والأرض، فإنها تختتم بنفس الخلق ٣٨، ٣٩، ٤٠.. ثم تعود لتكرر وتختتم كيفية الخروج يوم البعث كما أشارت إليها فى أول السورة، فتحدد «وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ» آية ٤١ مقارنة بالمكان البعيد فى سورة فصلت، فيسمع الموتى الصيحة بالحق ذلك يوم الخروج، آية «٤٢»، فكيف نخرج «يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ» آية «٤٤»، ثم تختتم السورة معانيها فتذكّرنا جميعاً «فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ»، أى هذا وصف تفصيلى لانتقالنا من الحياة إلى الوفاة بالموت، إلى الحياة مرة أخرى فى عالم الدوام أى الآخرة، إما نعيم مقيم أو عذاب أليم.. اللهم احفظنا.
وبالتالى، فإن إجمالى الملائكة حول الإنسان فى الدنيا ٤ ملائكة وشيطان واحد، أما فى الآخرة فملكان اثنان فقط، أحدهما يسوق الإنسان إلى أرض المحشر التى لا يعلمها الإنسان، فيسوقه حيث موضع محاكمته فى المشهد الرهيب الذى ندعو الله أن ينجينا منه، مشهد المحاكمة أمام كل الخلائق، والثانى يشهد عليه أمام الله بصدق لا كذب فيه، فهو مسخر للصدق.. ولذلك فصلت الآية ملكى الآخرة عن ملائكة الدنيا، فحددت من يأتى مع النفس للمحاكمة الربانية العليا بسائق وشهيد فقط، أما ملائكة الدنيا فلا مكان لهم فى الآخرة.