بينما كنا فى جلسة مناقشة، وحكم على رسالة للدكتواره بعنوان الإصلاح السعودى فى عهد الملك عبدالله، جاء من يحمل إلينا خبر تعيين الأمير مقرن بن عبدالعزيز، ولياً لولى العهد، وأن يصبح ولياً للعهد فى حال خلو منصب ولى العهد الذى يشغله حالياً الأمير سلمان بن عبدالعزيز، وأن يصبح ملكاً فى حال خلو منصبى الملك وولى العهد «الحاليين» فى وقت واحد، وفى اليوم التالى، اتضح أن هيئة البيعة التى أقرت هذا التعيين المستقبلى لملك لم توافق عليه إلا بنسبة ثلاثة أرباع وليس كل الهيئة التى يبلغ عدد أعضائها 34 أميراً سعودياً، كما تسربت أنباء بأن الملك الحالى عبدالله الذى يتجاوز التسعين من السنوات قد يتخلى عن الحكم لصالح ولى العهد الحالى الأمير سلمان، والذى هو أيضاً يعانى بعض المتاعب الصحية الكبيرة، لكن توقيت الإعلان عن هذه الخطوة قد يحدد لاحقاً.
مثل هذه الأخبار تعد مثيرة، قياساً بالطريقة المعتادة التى يُعين بها الملك، وأوجه الإثارة عديدة، فهى المرة الأولى التى يُعين فيها ولى لولى العهد من قبل ملك قائم على كرسى الحكم، واضعاً بذلك قاعدة جديدة، تختلف عما هو معتاد طوال العقود الستة الماضية التى كان فيها الملك حين يُنصب ملكاً يقوم هو بتحديد ولى العهد التالى له بعد استشارة الأمراء النافذين، ومراعياً أن يكون ولى العهد التالى له من أم غير أمه هو، وبحيث يكون تتالى الحكم بين الأبناء غير الأشقاء، وتزيد الإثارة أيضاً فى ضوء عدة حقائق أخرى من بينها أن الأمير مقرن هو الأصغر من أبناء عبدالعزيز مؤسس المملكة، وهناك من هم أكبر منه سناً، كالأمير أحمد والأمير تركى، والأمير عبدالرحمن، وهم من تبقوا ممن يعرفون بالأمراء السديرية الذين كان منهم الملك فهد، والأمير نايف، والأمير سلطان اللذان توفيا فى السنوات الأخيرة، ومنهم أيضاً الأمير سلمان، ولى العهد الحالى، والنائب الأول لرئيس الوزراء. ووفقاً للعرف السعودى القائم على أن يتولى سدة المُلك أبناء الملك المؤسس عبدالعزيز، والذى تم تضمينه فى النظام الأساسى للحكم الصادر عام 1992 شرط الصلاحية، يصبح السؤال: هل نحن أمام تغير جيلى فى بنية الحكم السعودى؟
الإجابة ببساطة نعم، فحين يصبح الأمير مقرن (70 عاماً) ملكاً فى مقبل الأيام، فمن المرجح أن تنتهى سلسلة توريث الحكم من الأخ إلى أخيه، ويتضح الأمر أكثر فى ضوء القرار الآخر بأن يكون الأمير متعب بن عبدالله، رئيس الحرس الوطنى الحالى، وهو الابن الأكبر للعاهل السعودى الحالى، ولياً لمقرن، أى أنه يصبح ملكاً بعد «مقرن»، وبالتالى تبدأ معه سلسلة جديدة من الحكم فى أحفاد المؤسس وليس لأبنائه، كما جرت العادة.
وبالتالى، فنحن هنا أمام تغيير مرتقب وكبير فى طبيعة واحدة من أهم آليات الحكم فى الأسرة السعودية والتى تعتبر واحدة من الأسباب التى ساعدت الأسرة السعودية على تجنب الخلافات التى عصفت بأسر حاكمة أخرى فى بلدان مجاورة. والمؤيدون يرون الأمر ضرورياً لأسباب عدة، منها أولوية الحفاظ على التماسك الداخلى للأسرة السعودية، وأن التحول إلى حكم الأحفاد لم يعد مجرد خيار، بل أصبح ضرورة قصوى لأن من تبقى من أبناء الملك المؤسس كلهم فى خريف العمر ويعانون ظروفاً صحية صعبة لا تناسب تعقيدات الحكم الداخلية والخارجية، وهى معاكسة لشروط الأهلية المعروفة والطبيعية لتولى الحكم. أما الأحفاد فمنهم الأكثر نفوذاً بين القبائل وجموع السعوديين، والأكثر تأهلاً للحكم والأكثر تمتعاً بالصحة والقوة العقلية.
ترتيب البيت السعودى مسألة مهمة للسعوديين، كما للمنطقة بأسرها، فهى الوسيلة التى تجنب المملكة الصراعات وتجنبها أيضاً الانغماس فى فوضى تضر بالجميع، ولكن يظل هناك تساؤل يفرض نفسه منذ فترة طويلة، وهو: هل يكفى تغيير الأشخاص فى ظل آليات لا يشارك المواطنون السعوديون أنفسهم فى وضعها أو مناقشتها، أم هناك أسباب جوهرية لتغيير المنظومة كلها وإن بتدرج؟ قد يلعب الأشخاص النافذون دوراً فى محاصرة أسباب الفوضى، وفى بناء قاعدة شرعية لفترة من الزمن، غير أن طبيعة التحولات الجارية فى المنطقة وفى العالم كله تجعل نسبة العوامل الشخصية فى الهيمنة على الحكم تقل رويداً رويداً، ويقابلها زيادة نسبة الاعتماد على مشاركة المواطنين أنفسهم، وفقاً للآليات الديمقراطية والمشاركة وقبول تداول السلطة. والمجتمع السعودى شأنه شأن أى مجتمع بات منفتحاً على العالم حوله، فهو يشهد تغييرات كبرى سواء فى نشوء اتجاهات فكرية وسياسية واجتماعية داخله، كما يشهد أيضاً تغيراً كبيراً فى توصيف الطبقة الوسطى التى نالت التعليم فى السنوات السابقة، وتتطلع أيضاً إلى التغيير المقنن، وإلى المشاركة فى صنع القرار من خلال آليات واضحة كالانتخابات والمجالس النيابية ذات الصلاحيات المعروفة فى التشريع والرقابة. وإذا كانت آليات الزواج وبناء المصالح مع القبائل النافذة ساعدت على بناء المملكة فى زمن سابق، كانت فيه مثل هذه الآليات هى السائدة والمقبولة، فإن الزمن الراهن والمستقبلى لم يعد يكترث بمثل هذه الآليات على الإطلاق، ويتطلع أبناء هذا الزمن إلى أن تكون بلادهم مثلها مثل البلاد الأخرى متسعة لكل المواطنين على قاعدة المواطنة والمساواة.
وكلنا يعلم أن هناك أفكاراً طُرحت من قبل، خاصة بعد غزو العراق للكويت، ونادت بإصلاح آليات السلطة والحكم فى السعودية، وطالبت بأن يتحول الحكم إلى صيغة الملكية الدستورية، أو صيغة الملك يملك ولكنه لا يحكم، وهى الصيغة التى رفضت بشدة من قبل الأسرة السعودية، بل تعرض بعض المثقفين السعوديين الذين طالبوا بهذه الدعوة إلى العقاب. وكلنا يعرف أيضاً أن الملك عبدالله، ومنذ أن كان ولياً للعهد وهو يتعهد بالعديد من الإصلاحات، وراعى الحوار الوطنى قبل عقد من الزمن، والذى ناقش قضايا كبرى وحساسة للمملكة ككل، مثل مواجهة التكفير والتطرف، ودور المرأة السعودية، وتطوير التعليم السعودى، والقبول بالمواطنة التى تتسع للسعوديين الشيعة، وغير ذلك من القضايا الفكرية والسياسية التى كان يستحيل الحوار العام بشأنها.
السعودية تتغير، والمجتمع يزخر بالكثير من التوجهات، وإصلاح قمة الهرم لا يغنى أبداً عن إصلاح القواعد، فالأمران متكاملان، فهل نسمع قريباً عن مجال أرحب للمشاركة؟ فلننتظر.