قبل أن يعلق أساتذة اللغة العربية على كلمة انقلاب، ويطالبونى باستبدالها، وأن أتسامح وأختار كلمات أقل قسوة، ويتهامس الأدباء والكتاب وزملاء المهنة، والغارقون فى الرومانسية، وعاشقو الورد ورموزه، ومحبو الشعر والموسيقى والكلمات الناعمة الهامسة، التى يتنافس المطربون للحصول عليها، والتغنى بها، واستعراض مهاراتهم وقدراتهم الصوتية، ويتهموننى باختيار الكلمات العنيفة، كما لو كنا فى ميدان قتال. أؤكد أننى اخترتها مع سبق الإصرار والترصّد، فالمعنى الذى أقصده منها هو أقرب ما وصلت إليه، لأرسم صورة لما يحدث فى عالمنا منذ قديم الزمان، عندما تنقلب الأنظمة السياسية على بعضها، وتقتحم القصور، وتسلسل أبوابها، وتتسلل الأقدام، إلى ما كان محرماً عليها النظر إليه، أو حتى الحلم به، ويعزل الملوك والرؤساء والوزراء، ويتم التحفّظ عليهم ومحاكمتهم، ويقفون خلف الأسوار، لتلتقط لهم وكالات الأنباء الصور التى تنطق بكل معانى الغدر والخيانة والظلم وانعدام الولاء والوفاء، وربما التجاوزات والفساد وغسل الأموال، وتهريب الأحجار الكريمة والمعادن النفيسة والبترول والغاز والقتل والتدليس والاحتجاز دون وجه حق، وإعطاء من لا يستحق مما لا يملك، والوعود التى لا تتحقق، وقد تختصر القصة وفصولها باغتيالهم، أو بوصول طائرة صديقة فى الظلام الدامس إلى المطارات السرية لنقل الأسرة والأصدقاء والحاشية والخدم وطاهى القصر المفضل وكاتم الأسرار الأمين، وصناديق تحمل خزائن وأوراقاً وأسراراً ووثائق ترمز للسلطة والجاه، بعيداً عن المنقلبين برضاهم التام، وبادعائهم أنهم لم يلاحظوا ولم يتوقعوا، ولم يكن من السيناريوهات المنتظرة أو المتاحة فرار هؤلاء، بينما تكون الحقيقة أن الصفقة تمت، وأن الوسطاء كانوا كرماء بما يكفى.
والحقيقة أننى أتحدث عن انقلاب خاص جداً، لا يستخدم القوة أو طلقات الرصاص أو الأحزمة الناسفة، ولا يؤدى إلى سقوط حكومات، بل يسقط الأشخاص من حياتنا، وتقلب صفحاتهم التى غالباً ما تكون قد امتلأت وفاضت وانثنت وتقلصت وتمزّقت، وتغير لونها وربما سال فوقها مداداً أو دماءً، أو دموعاً أو نخباً لم يجد صاحبه من يتبادله معه، فسقط الكأس من يده، وتناثر الزجاج ممزوجاً بما تمنى أن يسقيه بيده للمحبوب، وتلوثت الأوراق وفاحت منها رائحة الشراب.
وعن هؤلاء الذين تنقلب المشاعر عليهم، ينطبق ما قاله جبران خليل جبران (سيشتاقون لك حين يفشلون فى إيجاد شخص مثلك)، فمن سماتهم التى تساعد على نجاح الانقلاب عليهم تخبّطهم فى قراراتهم ومشاعرهم ونظراتهم وقلوبهم وخطواتهم وعقولهم، حيث يريدون كل شىء، وما لدى بعض الآخرين، وما ليس لهم فيه حق، فيضيع منهم كل شىء، ويحدث الانقلاب ويتحول الأحبة إلى أغراب، وتتناثر الشظايا والأشلاء، ليتحقق ما كتبه الشاعر حسين بكرى على صفحته الرسمية فى وصفه أنواع الحب (هناك حب تصنعه، وحب يصنعك، الأول يجتاحك ويرفعك بطائرة إلى عنان السماء، ثم يلقيك بلا مظلة. أما الآخر فيمنحك المظلة، ويفرد على الأرض وسادة من الريش، منتظراً نزولك، ويقصف الطائرة بصاروخ أرض جو، حتى لا تأخذك بعيداً عنه مرة أخرى)، فإذا أردت أن تعيش أيامك بقلب دافئ سعيد، بعيداً عن الأجواء الانقلابية، فابحث عن صاحب وسادة الريش، وألقِ بكل ما لديك بين يديه.