كثيراً ما تردد مصطلح «شرق أوسط جديد». الانطلاقة الأشهر جاءت فى أعقاب هجمات 11 سبتمبر 2001 والتى تلاها إصرار أمريكى على تغيير التوازنات فى المنطقة انطلاقاً من كونها، حسب الإدراك الأمريكى آنذاك، منطقة غير ديمقراطية وبحاجة إلى إصلاحات جوهرية سوف تدعمها الولايات المتحدة كاستراتيجية، والناتو كآلية عمل، هو ما تمت صياغته فى وثيقة شهيرة لاحقاً حددت المسئوليات لكل دولة أوروبية تجاه قضية بعينها، على أمل أن تتغير المعادلات فى الإقليم برمته بما يتوافق مع المصالح الأمريكية خاصة والغربية عامة. ثم جاءت الانطلاقة الثانية صيف العام 2006، وبمصاحبة العدوان الإسرائيلى على جنوب لبنان بغية إنهاء دور حزب الله ومحاصرة نفوذه، وقتها أطلقت كوندليزا رايس، مستشارة الأمن القومى الأمريكى آنذاك، تعبيرها الشهير «الفوضى الخلاقة»، معللة ذلك بأن الفوضى الناجمة عن العدوان الإسرائيلى ليست سيئة، بل ستقود إلى نتائج إيجابية، فعبر تغيير المعادلات فى المنطقة، بعد هزيمة أذرع إيران المنتشرة فى الإقليم، حسب زعمها، والهزات الكبرى التى ستنجم عن النتائج العسكرية فى جنوب لبنان، ستحدث صحوة تؤيدها «واشنطن»، تقود إلى شرق أوسط جديد.
الانطلاقتان السابقتان لم تؤديا إلى ما سعت إليه الولايات المتحدة، بل على العكس من ذلك. ومنذ 2006 وحتى الآن جرت فى النهر مياه كثيرة، بما فى ذلك تحولات فى السياسة الأمريكية والروسية، والناتو والصين، وأيضاً فى أهم دول المنطقة، بعض هذه التحولات دمر دولاً مهمة، وبعضها الآخر أكد قيمة وحيوية تماسك الدولة الوطنية باعتبارها الأساس الذى يستند إليه الأمن فى البلد المعنى وفى الإقليم ككل. وفى المقابل سعت قوى إقليمية إلى إحياء مشروعات استعمارية عفى عليها الزمن، لكنها ما زالت تدغدغ مخيلة قيادات تحلم بأن تكون سلطان زمانها. وقوى أخرى زرعت امتدادات لها فى الخارج، تبدو للناظر وكأنها قوة محلية، وفى حقيقتها ليست أكثر من قوة عميلة تأتمر بمن يمولها ويسلحها ويوظفها لأغراضه الخاصة.
منذ العام 2011، حيث انتفاضات شعبية بعضها حقق جزءاً من أحلام الشعوب، والغالبية نتجت عنها كوارث كبرى ووضعت أوطانها فى مهب الريح، وجعلت مصيرها بيد العملاء والأوصياء. وفى سياق الوصايات الدولية، تبدلت سياسات القوى الكبرى على نحو أصاب معادلات المنطقة بتخمة فى المسارات مصحوبة بعدم اليقين وغياب الثقة فيما يحدث وما قد يحدث. وكما تتبدل مواقف الكبار الأوصياء رأساً على عقب تتبدل مواقف العملاء والضعفاء وفاقدى الثقة بالنفس رأساً على عقب أيضاً، وبصورة تثير الحزن والأسى على فقدان البوصلة والإرادة. والقليل المحدود من القوى الإقليمية هو من يملك قراره ويعرف ماذا يريد، وكيف يواجه كل هذه المتغيرات والتهديدات بحكمة وتعقل.
فى الصورة الكلية للشرق الأوسط الجارى تحديد معالمه فى الحجرات الخلفية، وكأننا نستعيد ذكريات «سايكس بيكو» غير المأسوف عليها، نجد نفوذ روسيا يصعد تدريجياً، على حساب أمريكا الراغبة فى الانسحاب أو مشاركة آخرين لها فى الأعباء، ما يشير إلى رغبتها فى التنازل عن مقعد القيادة الدولية الذى كان لها فى العقود الماضية. وفى الخلف نفوذ صينى يتصاعد سلماً ويحجز لنفسه مواقع نفوذ اقتصادية وتكنولوجية حتى الآن، ولكنها قطعاً لن تتوقف عند هذه الأبعاد وستسعى «بكين» حتماً إلى نفوذ سياسى لاحقاً، والمسألة لـ«بكين» هى مسألة وقت لا أكثر ولا أقل.
جزء من الشرق الأوسط الجديد، المتشح غالباً بسيولة وصراعات نفوذ دولية وإقليمية، نراه يتشكل أمام أعيننا، بعضه يقوم على المباغتة والمفاجأة، وبعضه الآخر يقوم على المقايضات بين الأوصياء، ومعظمها مقايضات غير شريفة وتفتقر إلى القيم وتعكس سلوكاً لا يستحق أدنى احترام. لكنها السياسة التى تقوم على مبدأ أن الحرب خدعة.
فى «موسكو» تحدد مصير شمال شرق سوريا بالتنسيق مع «أنقرة»، ما أعطى للجارة حق الاحتلال بغض النظر عن ما يقال بشأن الحفاظ على وحدة سوريا الإقليمية. ويبدو أن هذا النموذج رغم فشله حتى الآن فى الحفاظ على سيادة سوريا الإقليمية، وفشله فى تنظيفها من الإرهابيين والمرتزقة، يبدو أن هناك من يحاول إعادة إنتاجه فى ليبيا، تحت مبرر التمهيد لعملية سلمية برعاية أممية واستضافة ألمانية نهاية يناير الجارى. وكما تقوم القوات الروسية بضبط الأمن فى الشمال السورى والحفاظ على وقف إطلاق النار مع مجموعات مسلحة، سوف تتولى قوات روسية المهام ذاتها بين قوات الجيش الوطنى الليبى وميليشيات ومرتزقة حكومة السراج، نظير ألا ترسل تركيا قوات إلى ليبيا، فى الوقت ذاته يتم التغاضى عن هؤلاء المسلحين السوريين الذين أرسلتهم «أنقرة» إلى «طرابلس» ومحيطها بالفعل ويقودهم مستشارون وعسكريون أتراك، وهدفهم إضعاف الجيش الوطنى الليبى، وهنا تكمن المشكلة الأكبر، فمثل هذا الاتفاق يعطى لتركيا ما لا تستحقه، كما يجعل الجيش الوطنى مساوياً مع هؤلاء المسلحين السوريين، وهذه بدورها نقطة ضعف كبرى.
وفى الخلفية تظهر نوايا إيطالية لإرسال مزيد من قواتها إلى غرب ليبيا بزعم حماية مصالحها النفطية والاستثمارات الإيطالية بوجه عام. وإن حدث، فلن نستغرب أن تحذو فرنسا الطريق ذاته. كما تعلن «أنقرة» نيتها فى إجبار الحكومة الليبية، بقيادة «السراج»، على الحصول على ما تصفه تعويضات للشركات التركية التى تعثرت نتيجة نهاية عهد «القذافى» بقيمة تصل إلى 2.5 مليار دولار. فالكل يتصارع على نهب الموارد الليبية، ما يفقد الثقة فى الجهود التى تبذل باعتبارها تهدف إلى تسوية سلمية تحافظ على ليبيا ومواردها. لكن تظل الكلمة الأخيرة للشعب الليبى نفسه ولمواطنيه ومسئوليه الشرفاء.
ما يجرى فى ليبيا ليس بعيداً عن الأزمة المتفاقمة فى العراق، والتعثر فى سوريا، والضغوط على إيران، واستمرار الحرب اليمنية، والضبابية السياسية المصحوبة بأزمة اقتصادية طاحنة فى لبنان، وتراجع القضية الفلسطينية، وتهديدات تنظيم «داعش» وأمثاله. فكلها مفردات تتشابه فى عناصرها الرئيسية، إذ توجد قوى محلية لا تملك من أمر نفسها شيئاً، وقوى خارجية تلعب دور الوصى، ومنظمات إرهابية ما زالت تتمتع بالقدرة على الحركة وإشغال الإقليم ككل رغم الهزائم، وأخيراً شعوب مغلوبة على أمرها تبحث عن خلاصها وتدفع كل يوم المزيد من التضحيات والمعاناة، ومع ذلك يحدوها الأمل فى التغيير إلى الأفضل، الذى ما زال بعيداً للغاية. ومهما كانت تدخلات القوى الخارجية وخداعها المعلن والخفى ونواياها السيئة، فسيظل الإقليم فى حالة فوران متصاعد إلى أن يتحقق فيه العدل والإنصاف، وتعود إلى شعوبه حقوقها المغدورة.