فى الأسبوع الماضى، حدث تطور لافت فى المنظومة التشريعية القطرية، وهو تطور استفز العديد من المواطنين القطريين، ووسائل الإعلام ومنظمات المجتمع المدنى الدولية، لكنه لم يكن جديراً باهتمام قناة «الجزيرة» بطبيعة الحال، ولم تخصّص له ساعات البث الطويلة، أو تنظم مجالس العزاء، وتشعل البكائيات على حرية الرأى والتعبير المنتهكة بسببه.
وببساطة شديدة، فقد أقر أمير قطر تعديلات على قانون العقوبات، يمكن بمقتضاها سجن أى قطرى إذا تحدّث فى الشأن العام، وهو أمر لا يحدث فى أعتى الديكتاتوريات، وأكثر الدول قمعاً وانغلاقاً على مستوى حرية الإعلام، والحق فى التعبير عن الرأى.
ولكى يمكن فهم طبيعة هذه التعديلات، التى انطوت على درجة قياسية من اللامنطقية، وفى محاولة لرصد ردود الفعل التى صدرت بسببها، سأقتبس فى السطور التالية جزءاً من تقرير بثته «سى إن إن» بخصوصها، وهو الجزء الذى جاء فيه ما يلى:
«أثارت تعديلات أقرها أمير دولة قطر الشيخ تميم بن حمد، على قانون العقوبات جدلاً واسعاً، وسط مخاوف من احتمالية تأثيرها على مساحة الحريات فى البلاد.
ونشرت صحيفة (الراية) القطرية، فى 17 يناير الحالى، تعديلات فى بعض أحكام قانون العقوبات الصادر فى 2004.
وبموجب التعديلات الجديدة فى المادة 136 مُكرر، يعاقب بالحبس مدة لا تتجاوز 5 سنوات وغرامة لا تزيد على 100 ألف ريال قطرى، أو بإحدى هاتين العقوبتين، كل من تناول بإحدى الطرق العلانية من الداخل أو الخارج، الشأن العام للدولة، أو أذاع، أو نشر، أو أعاد نشر أخبار أو بيانات أو إشاعات كاذبة أو مغرضة أو دعاية مثيرة.
وأوضحت التعديلات أن العقوبة سُتطبّق إذا كان من شأن تلك الأفعال إثارة الرأى العام أو زعزعة الثقة فى أداء مؤسسات الدولة أو القائمين عليها، أو الإضرار بالمصالح الوطنية، أو المساس بالنظام الاجتماعى للدولة، أو المساس بالنظام العام للدولة. فى حين تُضاعف العقوبة إذا وقعت الجريمة فى زمن الحرب.
وامتد الجدل بين عدد من مستخدمى (تويتر) فى قطر حول مغزى تعديلات قانون العقوبات، وقالوا إنها تضم مصطلحات فضفاضة تحتمل التأويل والاستخدام بطرق مُختلقة، وهذا لا يتناسب مع توجّه الدولة، ولا مساحة الحرية فيها، على حد قولهم.
ومن بين الكلمات التى وردت فى التعديلات، وأثارت قلق المُعلقين، على سبيل المثال (الشأن العام، إثارة الرأى العام، دعاية مثيرة، زعزعة، مغرضة، المساس بالنظام)، فيما دعا البعض إلى اللجوء إلى المحكمة الدستورية فى البلاد للنظر فى دستورية هذه التعديلات.
فى وقت تساءل فيه أساتذة قانون عما إذا كانت هناك أخطاء مطبعية فى نص المادة، مثلما علق حسن السيد، الذى يُعرف نفسه بأنه أستاذ قانون دستورى فى جامعة قطر.
وقال (السيد): (أشعر بأن هناك شيئاً خطأ، ما أتوقع أن المُشرع يصدر نهائياً مثل هذا التعديل على قانون العقوبات، لانتهاكه الصريح للدستور ولجميع العهود والمواثيق الحقوقية)».
إلى هنا انتهى الاقتباس من تقرير «سى إن إن»، لكن الأسئلة يجب أن تبدأ.
إن إقرار تلك التعديلات مسألة غاية فى الأهمية، بما يجعلها على رأس نشرات الأخبار فى «الجزيرة»، وغيرها من وسائل الإعلام التابعة لقطر وتركيا وتنظيم «الإخوان». من الضرورى أيضاً أن تقام منتديات العزاء واللطم والصراخ على حرية الإعلام المهدورة والحق فى إبداء الرأى المستباح. يجب أن يتم إجراء الأحاديث مع النقاد ونشطاء المجتمع المدنى ومسئولى حقوق الإنسان الأمميين والمعارضين السياسيين البارزين، فضلاً، بطبيعة الحال، عن بث «البروموهات» التى تُذكّر بـ«مجازر» حقوق الإنسان، ومسلسل قمع حرية الإعلام، مع حزمة من البرامج الحوارية، والأفلام الوثائقية، التى تكرس حالة استباحة الحريات وتوثقها.. لكن لماذا لم يحدث كل هذا؟
لم يحدث ذلك، لأن الواقعة تخص قطر. سيحدث هذا فقط عندما يتعلق الأمر بإحدى الدول التى تناصبها الدوحة العزاء، وسيتم غض البصر عن الحالة بأكملها عندما يجرى هذا التعديل القانونى الشائن فى دولة «صديقة» أو فى قطر نفسها.
هنا نجد مثلاً أنموذجياً ناصع البيان على حقيقة أن «الجزيرة»، ومن ورائها بقية منصات الإعلام القطرية والتركية و«الإخوانية»، تكيل بالمكاييل المتعدّدة، ولا تحترم حرية الرأى والتعبير، ولا تقيم وزناً لحقوق الإنسان، إلا عندما يتعلق الأمر بمصلحة سياسية ضيقة، يتم عبرها الضغط على نظام معاند، أو مكافأة نظام مساند.
إنها حالة سيئة من حالات الانتقاء المغرض للقصص والأخبار، تعكس نمط انحياز خطير فى الممارسة الإعلامية المنحرفة، ورغم أن الإعلام المصرى يعانى من تفشّى هذا النمط، ولا يتفاداه سوى قطاع محدود من الممارسات التى ترد عبره، فإن ذلك لا يمنع أبداً من انتقاد «الجزيرة» وشقيقاتها، بالنظر إلى أنها قدمت نفسها منذ انطلاقتها على أنها «صوت من لا صوت له»، و«الرأى والرأى الآخر»، و«وسيلة إعلام إقليمية احترافية تراعى القواعد المهنية وتعمل وفق أسس عالمية».
ثمة مسألة أخرى تتعلق بالسياسة القطرية ذاتها؛ إذ كيف تبنى قطر جزءاً رئيساً من استهدافها للأوضاع فى مصر والسعودية والإمارات والبحرين على ذريعة «أخلاقية» وسند «حقوقى» يتمثل فى الدفاع عن قيم عالمية، على رأسها الحق فى حرية الرأى والتعبير، والحق فى السلامة والأمن بمعزل عن الموقف والضمير، والحق فى تناول الشأن العام عبر الأقنية المخصصة لذلك، وفق قواعد النقاش الحر المسئول، ثم ترتكب مثل هذا الخطأ، الذى يتعرض بمقتضاه كل قطرى يناقش «شأناً عاماً» يخص بلاده، لاحتمال السجن أو دفع غرامة باهظة.
تعطينا قطر عبر تلك السياسة مثلاً واضحاً على سوء نواياها فى ما يخص سياساتها تجاه مصر، وشقيقاتها فى دول الرباعى العربى الداعى لمكافحة الإرهاب، من جانب، وعلى عدم إيمانها بكل ما تتوسل به وتستند إليه فى عدائها لمصر ومكايدتها لحكومتها من جانب آخر.
أما «الجزيرة» فليس هناك أسوأ من أن يدرك الجمهور العربى أنها فى مقابل ساعات البث الطويلة والوثائقيات والبرامج ومنصات «السوشيال ميديا» الغارقة فى شجب كل انتهاك أو افتئات مفترَض على حرية الرأى والتعبير هنا، تغض الطرف تماماً عن تشريع شائن يمكن أن يقوّض أى حق فى الكلام العمومى هناك.