إذا أردنا أن نفهم كيف استولى الإخوان لسنوات طويلة على وجدان مصر وعقلها، فإن علينا أن نتوقف طويلاً أمام ما جرى فى جامعات مصر فى بداية السبعينات.. نعرف جميعاً أن الرئيس السادات أسس الجماعات الدينية فى الجامعة، من خلال الوزير محمد عثمان إسماعيل، لكننا لا نعرف التفاصيل، والتفاصيل يسجلها رجل، يمكن أن نسميه رجل السادات فى الجامعة، وهو لحد ما رجل غامض، وإن كان الذين عايشوا الحركة الطلابية فى السبعينات يعرفونه جيداً.. هذا الرجل هو وائل عثمان، مؤسس جماعة أنصار الإسلام فى جامعة القاهرة، وقد سجل شهادته فى كتاب حمل اسم «أسرار الحركة الطلابية»، أصدره فى عام ٢٠٠٦ على نفقته الخاصة.
وائل عثمان نفسه شخصية مثيرة للفضول، فقد اختفى من المجال العام بعد انتهاء سنوات السبعينات، وترك مجموعة كتب ذات محتوى فكرى ضحل، لفت نظرى أن الشيخ محمد متولى الشعراوى كتب مقدمة أحدها عام ١٩٧٥، وهو كتاب يحمل عنوان «حزب الله فى مواجهة حزب الشيطان»، يروى «عثمان» أن الفترة التى أعقبت تأسيس الجماعة شهدت لقاءات مكثفة بين قادتها وبين مسئولى الاتحاد الاشتراكى وأحد الأجهزة الأمنية، وهو يسجل ملاحظة ساذجة وذات دلالة أيضاً حين يقول إنه لاحظ (إيماناً غريباً) يسود مكاتب المسئولين الرسميين الذين قابلهم أثناء تأسيسه للجماعة، فالآيات القرآنية تحتل الحوائط فى مكاتب المسئولين السياسيين وكذلك مسئولو الجهاز الأمنى.. كان ذلك أمراً غريباً فى بدايات السبعينات، لدرجة أنه لفت انتباه عثمان وزملائه من مؤسسى الجماعة الدينية، ويسجل «عثمان» فى كتابه ملاحظة طريفة أخرى وهى أنه لاحظ أن المسئولين السياسيين والأمنيين الذين قابلهم وقتها باتوا ينادون بعضهم البعض بلقب «حاج»، وهو ما لم يكن معتاداً وقتها!
إذا تأملنا فى أهم ما تحتويه الشهادة، سنجد أنها تسرد عدداً كبيراً من المقابلات مع مسئولين مختلفين، منهم د. أحمد كمال أبوالمجد وزير الشباب، ومحمد عثمان إسماعيل.. وأعضاء فى مجلس الشعب، وأن الرسالة التى كان يرددها مسئولو النظام واحدة.. الرئيس ليس ضد العمل الإسلامى، وهو ضد الشيوعية فقط.
أثناء هذه المحاولات يروى «عثمان» وقائع لقاء مع محمد عثمان إسماعيل، وكيف عرض أن يمد الجماعة بما تريد من أموال، وكيف رفضت الجماعة العرض الذى قبلته الجماعة الدينية الأخرى فى الجامعة، وهى الجماعة الإسلامية (جماعة عبدالمنعم أبوالفتوح) التى يتهمها «عثمان» بأنها كانت أداة للنظام، ويروى أيضاً أن محمد عثمان إسماعيل عرض أن يموّل الاتحاد الاشتراكى تذاكر مجانية للحج والعمرة يحصل عليها آلاف الطلاب، وأنه فى الوقت الذى رفضت فيه جماعته العرض قبله عبدالمنعم أبوالفتوح وجماعته. وسنجد أن د. عبدالمنعم أبوالفتوح فى شهادته عن تأسيس الجماعة الإسلامية ينفى التهمة عن نفسه ويثبتها على جماعة «أنصار الإسلام»، والحقيقة أن كلتا الجماعتين كانت مدعومة من الرئيس السادات وقتها لغرض فى نفس يعقوب.
قراءة شهادة وائل عثمان مهمة، لأنها تقول لنا ببساطة إن الأمر كان محض سياسة ومحض اصطناع لأسباب سياسية، وإن الأمر ليس له علاقة لا بالشرع ولا بالشريعة، وتقول لنا أيضاً إن ما جرى كان أكبر عملية خداع مر بها الشعب المصرى، وإن هذه العملية أثمرت بالفعل حتى أتى اليوم الذى صعد فيه رئيس إخوانى لمقعد الرئاسة فى مصر. قراءة الماضى ليست للتأمل ولا للتدبر فقط، لكنها أيضاً محاولة لفهم المستقبل.. لسبب ما أخرجت الدولة فى مصر مارد المتطرفين من القمقم ولسبب نعرفه جميعاً فإن عليها أن «تصرفه» كما أخرجته، أو كما يقول نزار قبانى «فإن من أشعل النيران يطفئها، وإن من بدأ المأساة ينهيها!»، وليس المقصود هنا تجريم جماعة الإخوان أو إعلانها جماعة إرهابية فقط، ولكن المقصود التصدى لعملية الاستلاب والسرقة التى قام بها المتزمتون لعقل مصر وروحها، وهذا أمر شرحه يطول.