بعض الأحداث برغم ألمها وقسوتها على النفس.. فإنها تصبح كاشفة عن الكثير من المسكوت عنه.. وربما تتحول إلى نقطة نظام.. يمكن البناء عليها.. والبدء من جديد..!
أسبوع قاسٍ على أطباء مصر بالكامل ذلك الذى مر علينا.. أسبوع متخم بالكثير من الألم والحزن والأسى لفقد ثلاث من بناتنا الطبيبات فى حادث سير مروع.. ما زالت آثاره باقية فى نفوس زميلاتهن المصابات فى المستشفى حتى هذه اللحظة.. ولا أظن أنها ستمحى بسهولة أبداً..
أسبوع قاسٍ.. ما زال ألمه يعتصر قلب كل من عرف هؤلاء الطبيبات عن قرب مثلى.. فالله يشهد أنهن كن أقرب للملائكة.. ربما كان هذا هو السبب الذى استردهن الله من أجله.. وكأننا لا نستحقهن بيننا.. أو أنهن يستحققن حياة أفضل من هذه الدنيا القاسية!!
الحادث قدرى بحت.. لا شبهة فيه لإصرار أو تربص.. كلنا يعرف ذلك كما يؤمن بقضاء الله وقدره الذى نراه فى مرضانا كل لحظة فى تلك المهنة.. تلك حقيقة قد يخفيها الغضب اللحظى.. ولكن يبقى أن نعترف -ومعنا كل مسئولى وزارة الصحة وعلى رأسهم الوزيرة- أن السبب الرئيسى فى وجودهن فى موقع الحادث هو ما يحمل شبهة الإصرار والتربص والتعنت والتعسف.. وكل ما يمكن قوله من صفات الرعونة!!
لقد فضحت محادثات الواتس آب المسربة الكثير من المسكوت عليه داخل أروقة وزارة الصحة.. فضحت كيف يتم التعامل بين الإدارات الطبية والأطباء.. فضحت حجم التخبط والعشوائية التى تعصف بالجميع.. فالتدريب تم إقراره قبل الحادث بيومين.. والطبيبات تم إبلاغهن قبل الحادث بيوم واحد.. والمهم أن يحضر الجميع.. دون أن يقيّم أحد الوضع أو أهمية التدريب نفسه.. ودون أن يرتب أحد السادة المسئولين أمر السفر بشكل مؤسسى..
«من تحمل طفلاً فلتأت به معها»!!.. على الرغم من أن وجود الطفل سينسف كل احتمالات الاستفادة من التدريب للطبيبة ذاتها إن وجدت.. و«من لديها ظرف قهرى فلتتغلب عليه مهما حدث».. وإلا فلتتحمل ما سيحدث لها من الوزارة!!
هكذا كانت التهديدات صريحة وواضحة عكس كل ما يحدث فى الوزارة.. المهم أن تمتلئ دفاتر الحضور بالتوقيعات.. وتمتلئ القاعة بالطبيبات أمام كاميرات التصوير.. والأهم من كل هذا أن يعطى السيد مدير الإدارة «التمام» لمن يرأسه بأن الجميع قد حضر!!
لقد ماتت ثلاث زهرات لأنهن خفن من النقل والعقاب.. مُتن لأنهن لم يمتلكن الشجاعة ليعترضن على حماقة وسوء تنظيم يتكرر فى تلك الوزارة كل يوم تقريباً.. مُتن ليكشفن للجميع كيف تدار الأمور فى ذلك الصرح العريق المسمى وزارة الصحة!!
المؤسف فى الأمر أن أحداً لم يتحرك فى الوزارة للتحقيق فى الأمر.. فبيان هزيل قد صدر بعد ساعات من الحادث.. ووعد بترضية معنوية بالحج لأهالى الشهيدات قد صدر -على الرغم من أن إحداهن مسيحية الديانة- ثم صمت رهيب بعدها..!!
لم يحاول مسئول ما أن يتحرك ليتحقق من واقعة التهديد المثبتة للجميع وهى جريمة يعاقب عليها القانون..!
لم يحاول أحد أن يبحث فى جذور البيروقراطية المهلكة التى قتلت أرواحاً طاهرة!!
التحقيق أعلنت عنه النقابة بالرغم من أنه واجب على وزارة الصحة.. ومعاقبة كل من استغل منصبه فى تهديد وترهيب الضحايا هو ما نأمل فيه لتبرد نار الزملاء والأهالى قدر الإمكان!!
التدريب كان لحملة الكشف المبكر عن سرطان الثدى.. ولكننى أعتقد أن تدريباً أهم تحتاجه الوزارة وبشدة.. تدريباً للكشف وعلاج سرطان «العشوائية» الذى أودى بحياة أولادنا.. ولعمرى هو أخطر بكثير وأشد فتكاً بالوطن.. لو كنتم تفقهون!!