التعافى بعد الإصابة بمرض جسدى يستغرق وقتاً. والتعافى بعد الإصابة بأمراض نفسية وعصبية، لا سيما تلك التى تصيب المريض لفترات طويلة لا تستغرق وقتاً فقط، بل تستهلك جهداً وتتطلب إرادة فولاذية وتحتم تكاتف المريض وأهله ومعارفه معاً من أجل ضمان التعافى الكامل.
وما ضرب مصر فى أعقاب تسونامى الربيع ليس هيناً، واللبس الكبير واللغط الشديد والتخوين الرهيب والاستقطاب المريع وغيرها من المستجدات غير المعتادة ظلت تنخر فى عظام مصر طيلة السنوات التسع الماضية. صحيح أن حدة النخر خفت كثيراً، ومعدل النفخ فى الرماد عساه ينشط مجدداً ويستأنف حرائقه قل بشكل ملحوظ، لكن المحاولات مستمرة.
واستمرار حالة الإنهاك التى يشعر بها المواطن نتيجة عنف «المرجحة» طيلة السنوات التسع الماضية متوقعة، لكنها لن تستمر طويلاً، فما جرى فى مصر منذ هبت رياح التغيير فى مثل هذا اليوم قبل تسع سنوات كان أقرب بمن ظل طيلة عمره لا يقترب من الملاهى، ثم فجأة وجد نفسه راكباً قطار الموت السريع ومنه إلى البساط الطائر المجنون وبعده الحلزونة المرعبة ثم العجلة الشاهقة إلى أن لمست قدماه الأرض فيما يشبه المعجزة.
ومصر بلد المعجزات، فتجد الشعب الذى تحمست قطاعات عريضة منه لما جرى فى يناير 2011، ظناً منه أن التغيير الوحيد القابل للحدوث هو التغيير للأفضل، ولما أدت به «الحلزونة المرعبة» فى عامى 2012 و2013 إلى غثيان وقىء شديدين من حدة الهبد وشدة الرزع، هب هبته واسترد جانباً من قوته.
قوة المصريين الحقيقية بعد مرور تسع أو 900 سنة على أحداث يناير 2011 لن تتحقق بشكل كامل إلا بعد أن تتعافى القلوب وتستنير العقول، وهذه هى الثورة الحقيقية المطلوبة، التى لا يشترط أن تتزامن وعيد الشرطة أو عيد الفلاح أو أعياد المسلمين أو المسيحيين أو اليهود، وبالكشف الدقيق على الجسد المصرى وفى ضوء أحداث السنوات التسع الماضية، وعوارضها الجانبية الإيجابى منها والسلبى، الظاهر منها والباطن ثبت أن الجسد منهك لأسباب عديدة، وجميعها يبدأ من الرأس ويؤثر على القلب.
رأس مصر يحتاج عَمرة كاملة، بفتح العين، الموتور معطوب منذ سنوات تقارب الخمسين عاماً، وهو ما نتج عنه ما نراه اليوم من تعلق بخرافات، وتشبث بمظاهر منزوعة المضمون، وبُعد يصل إلى حد الكراهية للعلم، واستئناس بالدجل بأشكاله وأنواعه، واستسهال تسليم تفاصيل الحياة الشخصية لأشخاص قدموا أنفسهم باعتبارهم الوكيل الوحيد المعتمد للسماء، ناهيك عن مخاصمة قيم العمل والإتقان واعتبار الفهلوة سر النجاح.
نجاح مصر فى تخطى سنواتها الصعبة تحقق جانب كبير منه بأحداث يونيو 2013، وهى الأحداث التى برهنت للعالم وللمصريين أنفسهم أنهم ما زالوا قادرين على الفرز والاختيار وإنقاذ أنفسهم. عملية الإنقاذ لم تتوقف بعد، وهى فى حاجة إلى الاستدامة من أجل السلامة والبعد عن الندامة. أيقن المصريون أن محاولات الإطباق على أنفاس مصر تدور رحاها، وتكفى متابعة ملف ليبيا وغاز المتوسط وتحركات أذناب جماعة الإخوان فى قطر وتركيا وعواصم أوروبية ومراكز بحثية وقنوات فضائية، ولأنهم أدركوا ذلك، فهم واعون لما يدبر لهم.
وفى مناسبة مرور تسع سنوات على ما جرى فى يناير 2011، فإن مصر تستحق من المصريين أن يخضعوا أنفسهم لجردة ذاتية، علينا أن نقارن ما كنا عليه قبل نصف قرن وما أصبحنا عليه الآن شكلاً وموضوعاً، ما التغيرات التى طرأت علينا وعلى تركيباتنا الشخصية؟ هلى أصبحنا نماذج بشرية أفضل من تلك التى كانت موجودة فى أربعينات وخمسينات وستينات القرن الماضى؟ أم أصبحنا نماذج ممسوخة لا هى مصرية ولا هى خليجية ولا هى أوروبية، وهل نحن بالفعل تخلصنا من جماعة الإخوان المتاجرة بالدين ومعها أذنابها، أم أن أذنابها ما زالت حية ترزق معنا، حيث تحقير المرأة وتجميل الخرافة وتقزيم العلم وتسليح الضعفاء بسلاح التكفير والترويع، والاكتفاء بجوانب التهديد والوعيد للسيطرة على العقول والهيمنة على القلوب؟
قلب مصر بخير وكذلك عقلها لكنهما فى حاجة إلى التجديد والتطوير وإزالة ما علق بهما من صدأ 50 عاماً مضت، وذلك بين تجهيل دينى متعمد وتغييب سياسى على مدار حكم الرئيس السابق مبارك، ما أدى إلى توسع الفساد وجمود الفكر وخروج أجيال إلى النور لم تجد فعلياً من يحنو عليها تعليمياً أو ثقافياً أو تنويرياً.
وبالإضافة لكونه عيد الشرطة المصرية، فلنتذكر هذا اليوم من كل عام باعتباره اليوم الذى شهد بداية أحداث ساعدت على كشف ما يجرى فى باطن مصر منذ سنوات دون أن يدرى أحد، هى أحداث دفعتنا دفعاً نحو إعادة اكتشاف أنفسنا، ومواجهة مواطن العوار، وإخضاع أنفسنا لنقاهة ضرورية ومراجعة تنويرية لشفاء النفس العليلة.