يخبرنا التاريخ القريب والقديم على السواء أن الأمراض الوبائية سريعة الانتشار بين البشر، والتى تؤدى إلى الوفاة ليست أمراً جديداً، وفى العقدين الماضيين شهد العالم فترات مليئة بالتوتر والخوف والذعر من أمراض صنفتها منظمة الصحة العالمية أمراضاً وبائية تستدعى احتياطات مشددة من السلطات الصحية فى كل دول العالم بلا استثناء. شهدنا ذلك مع ظهور الإيبولا وسارس وإنفلونزا الطيور وإنفلونزا الخنازير وزيكا، وكلها فيروسات خطيرة ثبت أنها تنطلق من أجسام الحيوانات والطيور وتنتقل إلى الإنسان بعد حدوث طفرات جينية فى الفيروس ذاته، وترجع خطورته إلى عوامل متعددة، كسرعة الانتقال من شخص إلى آخر سواء بالملامسة أو عبر الاستنشاق بالقرب من شخص مصاب، أو الإصابة عن طريق الدم، كما هو فى زيكا الذى ينتقل بالبعوض ويصيب الأطفال تحديداً بالتشوه الخِلقى. وعادة ما يكون الفيروس فى طوره المُحدث خطيراً ومفاجئاً فى تكوينه وفى أعراضه التراكمية، لا سيما مع عدم وجود مصل أو دواء ناجع يقضى عليه فى زمن مناسب. وبالنسبة لكورونا الراهن فتبدأ أعراضه كأعراض مرض الإنفلونزا المعتادة، مما يسبب فى البداية التباساً فى معرفة طبيعة المرض الذى يتطور سريعاً لينهى مناعة الشخص المُصاب ويقربه من حافة الوفاة ما لم تستطع السلطات الطبية إنقاذه بأى شكل كان.
فيروس كورونا هو النسخة الأخطر حسب تقارير منظمة الصحة العالمية التى طالبت دول العالم باتخاذ إجراءات مشددة لحماية مواطنيها والوافدين إليها من المناطق التى تتعرض للإصابة. وهو أمر لا مفر منه فى ضوء الترابط والتداخل بين الشعوب والمجتمعات عبر العالم من خلال السفر والانتقال عبر الحدود واستقبال السلع والمصنوعات من دول يحتمل أن ينتشر فيها الفيروس. وكلما ترابط العالم أصبحت هذه الظواهر معتادة، تتطلب تعاوناً وتكاملاً بين الجهود الدولية لمحاصرة المرض سواء فى منشأه الأصلى، أى الصين فى حالة كورونا، أو فى البلدان التى يصل إليها الفيروس بطريقة أو بأخرى، وهى الآن 21 دولة.
فى الحالة الصينية نجد أموراً تستحق التنويه، منها اتخاذ السلطات الصينية قرارات جريئة كوقف الأنشطة العامة وإغلاق المدارس والجامعات ومد إجازة بداية السنة القمرية حتى مطلع فبراير، وعزل عدة مدن يعيش فيها ما يقرب من 56 مليون نسمة، ووقف الطيران والمواصلات العامة إلى المناطق التى ظهر فيها الفيروس. وهى قرارات مكلفة اقتصادياً، تقدر تكلفتها الإجمالية بمائة وسبعين مليار دولار قابلة للزيادة، ولكنها باتت ضرورية فى ضوء طبيعة المرض وسرعة انتشاره. كما تم استنفار كافة المختبرات الطبية للتوصل إلى علاج فورى، وإنشاء مستشفيات فى زمن قياسى لا يزيد على عشرة أيام تُخصص لمعالجة المصابين، وتخصيص فرق طبية مُجهزة ومُدربة. والأهم من هذه الإجراءات هو سياسة الشفافية التى اتبعتها السلطات الصحية فى إعلان عدد المصابين والوفيات أولاً بأول، وهو أمر فى غاية الأهمية لمنع الشائعات وتأكيد الثقة الشعبية والعالمية فى الإجراءات الصينية رغم ما تفرضه من تضحيات شعبية هائلة. الأمر الذى أثنت عليه منظمة الصحة العالمية.
ومع انتشار المرض وسهولة انتقاله بات الأمر يتعلق بصحة العالم بأسره، وليس فقط صحة الشعب الصينى، ومن هنا تأتى منطقية الإجراءات التى اتخذتها العديد من الدول بتعليق السفر إلى الصين وعدم استقبال مواطنين صينيين ما لم يكونوا من المقيمين فيها، فضلاً عن إجراءات الوقاية المعتادة للقادمين من الخارج. وإلى أن تنجح الصين فى القضاء على الفيروس وإنهاء حالة الطوارئ الصحية المشددة، ستظل هذه الإجراءات مستمرة. وهو أمر ليس موجهاً للصين، التى تتمتع باتصالات وعلاقات تجارية واقتصادية حيوية مع كل دول العالم دون استثناء، ومن ثم فهى إجراءات فرض ضرورة لزمن معين، وليس لها مغزى سياسى أو استراتيجى. لكن آخرين من مدمنى نظرية المؤامرة يرون أن فيروس كورونا تم تخليقه فى الولايات المتحدة ونشره فى الصين بهدف عزلها عالمياً واستهداف اقتصادها الذى يسبب قلقاً شديداً لها خاصة وللغرب الأوروبى عامة. ولا يملك هؤلاء أى دلائل مؤكدة لمثل هذا التفسير التآمرى، اللهم سوى الرغبة فى تطويع الأحداث بعيداً عن سياقها الطبيعى وتوظيفها إعلامياً وسياسياً لغرض الإثارة وتشويه الحقائق.
هذه التفسيرات تستهدف البسطاء وتلغى لديهم الحس المنطقى فى فحص الأحداث والتطورات التى تفرض نفسها على العالم بأسره. صحيح قد تستفيد الولايات المتحدة دعائياً من وقوع الصين تحت ضغط صورة إعلامية سلبية مؤقتة، وتدعو شركاتها واستثماراتها العاملة فى الصين إلى العودة إلى موطنها الأصلى وإفادة الاقتصاد الأمريكى كما يعتقد البعض، ولكن هذا التوظيف السياسى يظل عابراً يجسده المثل الشائع «مصائب قوم عن قوم فوائد»، دون أن يقدم دليلاً على نظرية المؤامرة.
ومن التفسيرات التى أطلقها البعض أن انتشار فيروس كورونا بكل آثاره السلبية هو غضب من الله سبحانه وتعالى على الصينيين بسبب سلوك حكومتهم غير المقبول مع مسلمى الصين بحكم اعتقادهم الدينى الإسلامى. ولا شك أن القدرة الإلهية تنظم كل شىء وكل أمر وفى كل مكان وزمان، ولكن بالنسبة للبشر المؤمنين بالخالق العظيم وتحت سقف هذا الاعتقاد الإيمانى يظل عليهم البحث عن الأسباب وراء حدوث ظاهرة ما مهما كانت صغيرة أو كبيرة، وهى أسباب يتم التوصل إليها بالعلم والبحث وإعمال العقل تطبيقاً لأمر الله تعالى للبشر جميعاً بالنظر فى الكون وتدبر أموره وإدراك القدرة الإلهية التى لا حدود لها.
والافتراض الجارى بحثه علمياً الآن وتدعمه دلائل عملية وسوابق شهيرة، أن فيروس كورونا الحالى هو نموذج مُحدث من فيروس سابق تم تشكله فى فصيلة حيوانية، كالخفافيش أو الثعابين أو حيوان برى من تلك التى يَعتاد على أكلها الصينيون، ما أحدث طفرة فى خصائصه وأصبح قادراً على إصابة الإنسان بسرعة. وعلى هذا النحو فإن الأمر يتعلق بسلوك مجتمعى بالدرجة الأولى وعادات للأكل ليست مقبولة فى الغالبية العظمى من المجتمعات، وترتبط بتقاليد صينية وإدراكات شعبية حول فوائد هذه النوعية من الأطعمة الغريبة، وليس فيروساً مُخلقاً أو مؤامرة تستهدف الصين تحديداً.
ومع تأكد هذه الحقيقة العلمية يصبح المطلوب صينياً مراجعة تلك التقاليد المجتمعية الخطيرة، التى تسببت من قبل فى ظهور فيروس السارس، والآن كورونا، وتوعية الصينيين بالتوقف عن كل ما يحتمل الخطر على صحتهم وحياتهم، وأيضاً على صحة العالم بأسره. وهى مهمة يجب على السلطات الصينية أن توليها جهداً أكبر فى الأيام القادمة.