لم أرَ منظراً كئيباً ومحزناً، مثل تلك الصور التى نشرت فى اليومين الماضيين للضحايا من قبيلتى الهلايلة والدابودية فى أسوان، فالجثث مُلقاة على الأرض، والدماء تحيط بها، وعربات نقل بدائية مُحملة بعدد من الجثث مكدسة بعضها فوق بعض، والأدهى من ذلك نظرات بعض الشباب والكبار للجثث بقدر من الدهشة وقلة الحيلة. الصور تذكرنا بحالة همجية بكل معنى الكلمة، تمر بها بعض المجتمعات حين تتقاتل بوحشية من أجل سبب واهٍ، أو حتى سبب كبير، ولكنه فى النهاية لا يساوى روح إنسان كرمه الله تعالى، وجعل الإيمان به مرهوناً باحترام النفس البشرية، وعدم إيذائها أو التعرض لها إلا بالحق، وبشروط محددة أهمها أن يكون العقاب بواسطة ولى الأمر، وبلغتنا المعاصرة عبر مؤسسات الدولة.
ما رأيته من صور الجثث والحرائق، ذكرنى بأحداث أليمة سابقة، كنت شاهداً عليها بحكم الضرورة وليس اختياراً. الذاكرة تعود إلى يونيو من عام 1967، سنة النكسة وبدء الاحتلال الإسرائيلى لسيناء وأراضٍ عربية أخرى، وبين يونيو وحتى نهاية أكتوبر تعرضت مدن القناة لسيل من الهجمات الصاروخية وبالمدفعية الإسرائيلية من الجانب الشرقى من قناة السويس، وفى كثير من هذه الهجمات سقط ضحايا كُثر ودُمرت أبنية عديدة، وحدثت حرائق. إحدى أكثر الهجمات وحشية كانت فى أخريات شهر يونيو، الوقت هو تمام الثانية ظهراً فى محطة قطارات الإسماعيلية، كان الهدف قطار الظهيرة الرابط بين المدينة وضواحيها، وهو القطار الشهير الذى يحمل الطلاب والموظفين بعد يوم من العمل أو الدراسة فى المدينة. سقطت طلقات المدافع الإسرائيلية بكثرة على القطار، وفى غمضة عين تحول القطار بكامله إلى حريق هائل. كانت الجثث المتفحمة تثير الغثيان، وتساقط الجرحى بالمئات من كل الأعمار، تعالت أصوات جمعت بين الحشرجة والاستغاثة والألم. جرينا بعيداً عن القطار، ولكن الأصوات ظلت تلاحقنا نحن الفتيان الخائفين والمرعوبين مما رأينا. لم يكن لدينا خيار آخر. بعد عدة دقائق وبينما كانت ألسنة اللهب تقترب من السماء، تجمع الكبار من الشوارع القريبة فى محاولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. ذهبنا معهم وحملنا الجثث المتفحمة وكان من بينها جثة جارتنا الوقورة والدة رفاق اللعب والدراسة. لم نبك لحظتها، تبلدت مشاعرنا من هول ما جرى، أنهمكنا جميعا كباراً وصغاراً فى إبعاد من كان داخل العربات المحترقة. كانت حركتنا عفوية، البحث عمن يستغيث ومحاولة إنقاذه. والبحث عمن استشهد ومحاولة إكرامه.
حين أتذكر هذه اللحظات الحزينة من الماضى، أدرك جيداً أن السبب هو العدو الغادر. كنا فى حرب، وفى الحروب تحدث المآسى وتسيل الدماء البريئة وتحدث مشاهد لا تنسى مهما طال الزمن. لكن فى أسوان سالت الدماء ومُثّل بالجثث، فى حين لا توجد حروب ولا يوجد عدو غادر. فى أسوان نكتشف أن العدو هو نحن وليس أى أحد آخر. بالقطع هناك أسباب عديدة لما حدث بين قبيلتين تعيشان بجوار بعضهما بعضاً منذ عقود، هذه هى ضريبة الاحتكاك فى مجتمع يقدس الهوية الذاتية على أى شىء آخر، لكنه لا يبرر إطلاقاً مثل هذه الوحشية المتبادلة سواء بالقتل أو الذبح أو التمثيل بالجثث أو حرق المنازل، بينما الأطفال والنساء داخلها.
هناك تشوه كبير حدث فى الشخصية الأسوانية سواء النوبية أو العربية وعلى باحثى الاجتماع والسلوكيات أن يرصدوه، وأن يقدموا التفسيرات والحلول المناسبة له. سمات الهدوء والاعتدال والسلمية والبساطة والقناعة والتودد للغرباء والأقرباء أصبحت من الماضى السحيق، فقد النوبيون وجيرانهم العرب سماحتهم المعهودة. هكذا تظهر الصور البشعة. كل من حمل سلاحاً وقتل نفساً بدم بارد، أو ألقى قنبلة مولوتوف على منزل أو دار سُكنى بأهلها ليس من أسوان التى كنا نعرفها. إنه من أسوان أخرى، فقدت فطرتها السمحة، وتنازلت عن سلميتها.
كثير من التفسيرات التى قيلت فى تحليل ما حدث، بداية من وجود يد إخوانية خبيثة أشعلت الفتنة، ومروراً بتقاعس الأمن على الأقل فى بداية الأحداث، ونهاية بوجود الفقر والجهل وضغوط الحياة التى لا تحتمل، وبما فى ذلك المشاعر المحتقنة بفعل التهجير الممزوج بشعور هائل بالظلم، كلها تملك ظلاً من الحقيقة، لكنها لا تعفى أبداً مسئولية أبناء القبيلتين عما حدث، سواء العواقل الُمناط بهم احتواء المشاعر الغاضبة والحرص على مصالح الجماعة، أو الشباب الذين يفترض فيهم انفتاحاً أكبر وحيوية أكثر مقارنة بالأجيال الأكبر. العيب كامن فى النفوس، وفى كثير من التقاليد التى ابتدعت وتم التمسك بها، رغم أنها ضد الفطرة البشرية والعقل السليم. إنه العيب الذى سمح لفرد بأن يثير فتنة قاتلة بين مجتمعين كبيرين، وأعطى الفرصة لسيطرة التصرفات الهوجائية البعيدة عن التعقل والتدبر.
لقد ظهر السلاح كثيفاً بين أيدى شباب القبيلتين، تلك عادة جديدة على أناس معروفين بالميل إلى الوداعة والسلام، أما استخدامه بهذه الوحشية فى الاعتداء على الغير، فهو الدليل الأكبر على أن التغير السلبى نفسياً وسلوكياً للجماعة ككل وصل إلى مدى كبير، أما علاجه فسيحتاج جهوداً جبارة وزمناً طويلاً. لقد كُسرت الشخصية النوبية والأسوانية، كسر يصعب إصلاحه. الإصلاح هنا باهظ الثمن، ويكفى ما حدث بالفعل. أى حديث عن انتقام أو ثأر، يعنى أن هناك جولات أخرى من الدم قريبة الحدوث.
بعض التقارير تحدثت عن وضع متاريس بين الأحياء التى يعيش فيها الطرفان العربى والنوبى، والتجوال محظور، بل وقاتل لكل من تفرض عليه الظروف أن يمر بجانب أحد هذه المتاريس التى يسيطر عليها الطرف الآخر. نفهم أن متطلبات اللحظة والتوتر والغاضب يستدعيان ذلك بعض الوقت. لكن إن استمر أطول من الضرورة نصبح أمام نموذج مجتمعى صراعى قابل للتفجر مرات ومرات.
إن لم يدرك أهل أسوان وكبراؤها طبيعة المحنة التى يعيشونها ويعترف الجميع بالمسئولية، والخطأ، والاستعداد لدفع الثمن الإنسانى والقانونى والمجتمعى فى آن واحد، فلن تعود السماحة وستغيب الوداعة ويفتقد الود واللين. المراجعة مطلوبة من الكبار والصغار معاً. الاعتراف بالخطأ خطوة لا بد منها، والإصرار على تجاوز هذه اللحظة الهمجية يتطلب النظر فى عدد الموتى والجرحى للاعتبار، وليس من أجل الثأر والانتقام. الذين ماتوا واستشهدوا والذين أصيبوا عرفوا نصيبهم، المهم أن يحدد العقلاء مصير من حولهم.