هذا بالبداهة مجرد مثل، انطبق على حياة الدكتور إدوارد سعيد وإمكانياته الحرفية والعامة، والمحيط الذى عاش فيه، واتساعه لهـذه وتلك، وعدم خلطه بين حق الفرد فى تناول الشأن العام بلا تقييد أو مصادرة عليه فى حرفته أو انتقام يلاحقه بأشكال مرئية أو خفية، ولكن ذلك قد لا يتاح فى حرف أو مهن أخرى، وقد يأباه المحيط، وقد تضيق السلطة الخناق عليه! إن الحرية والمناقشة العميقة العنيدة هما جوهر نشاط المثقف، فكيف الحفاظ عليهما فى محيط يضيق بالمصارحة وبكل رأى آخر؟!
هل هى حيرة أم مأزق يواجهه المثقف المحترف؟ وما هو السبيل للخروج؟! هنا تطفو ثقافة الدكتور إدوارد سعيد الموسوعية، فيطوف مع كتاب ضخم للمؤرخ الأمريكى بيتر نوفيك أصدره عام 1988 بعنوان: «الحلم النبيل»، تناول فيما تناوله فيه كيف أن البحث عن المثل الأعلى للموضوعية، قد بات يعترضه الآن مستنقع موحل من المزاعم والمزاعم المضادة!
إن التفريعات العديدة الموجودة فيما جرت به المذاهب والأيديولوجيات، قد أدت إلى غياب شبه كامل للقيم العالمية، والمشكلة الأساسية تتمثل فى كيفية التوفيق بين هوية المرء الخاصة وحقائق ثقافته ومجتمعه وتاريخه من ناحية، وبين حقائق الهويات والثقافات والشعوب الأخرى. وفيما بين المثقف والسلطة فى وطنه، فإنه مع الإقرار بأنه لا يستطيع أن يرفع صوته للتعليق طول الوقت على جميع القضايا، إلاّ أن أمامه واجباً خاصاً يتمثل فى مخاطبة السلطات المسئولة عن إدارة شئون الوطن، بما يتوجب صدقاً وحقاً مخاطبتها به، والغاية من ذكر الحقيقة فى مجتمع يعتمد على الإدارة الجماعية، هى فى المقام الأول تقديم صورة أفضل لما ينبغى أن يكون عليه الواقع، وبحيث تقترب هذه الصورة اقتراباً أكبر من تجسيد القيم والمبادئ الخلقية، كالحرية والـعدل والسلام والمساواة. سوف يستطيع المثقف أن يؤدى هذه الرسالة إذا لم يقع فى براثن «التوافق» أو«التفادى» أو«الخوف».. وأيضاً إذا فارق الانتهازية والوصولية.. إن قول الحقيقة للسلطة، ليس ضرباً من المثالية الخيالية، بل إنه يعنى إجراء موازنة دقيقة بين جميع البدائل المتاحة، واختيار البديل الصحيح وتقديمه بذكاء فى المكان الذى يحدث التغيير الصائب.
عن دائمى الخذلان، اختار إدوارد سعيد موضوع الفصل السادس والأخير من كتابه «المثقف والسلطة»، اختار مثالاً لمن سماهم «أرباب دائبة الخذلان». المثل المختار مفكر إيرانى لمّاع الفصاحة ذو شخصية جذابة، تعرف عليه عام 1978. كان صاحب دور مهم فى التعريف بسلبيات حكم الشاه، وسرعان ما انخرط فى الشخصيات الجديدة التى برزت والتفت حول الخومينى. صورته التى انطبعت فى ذهن الدكتور سعيد أنه رجل مهذب ألزم نفسه بالنظام الجديد وجعل يدافع عنه بل «ويخدمه»، باعتباره مبعوثاً مخلصاً من الخارج. وفضلاً عن أنه مسلم ملتزم وغير متعصب، فإنه كان بارعاً فى الرد على المتشككين الذين يهاجمون حكومته الجديدة.. كان يفعل ذلك باقتناع وحرارة مبدياً القدرة على التمييز بين ما ينبغى وما لا ينبغى، ولكن دون أن يترك ذرة شك فى أن الإمام الخومينى كان ويجب أن يكون صاحب السلطة فى إيران، وبلغ من درجة ولائه أن رفض فى زيارة لبيروت مصافحة أحد القادة الفلسطينيين، لأنه كان قد انتقد الإمام! أتت الدائرة الدوارة، عبر استقالته من منصب السفير لدى مدينة مهمة، ليعود إلى إيران مساعداً خاصاً للرئيس بنى صدر، الذى خسر فى النهاية معركته مع الإمام الخومينى الذى طرده فلجأ إلى المنفى، ولحق به السفير المفكر الإيرانى اللماع، ولكنه لم يلبث بعد مدة وجيزة أن انقلب انقلاباً حاداً فجعل ينتقد أحوال إيران فى ظل الخومينى علناً وبصوت مدوٍّ، ويهاجم الحكومة والرجل الذى كان يخدمه على ذات المنصات فى لندن ونيويورك، التى سبق أن دافع عنه من عليها!! ولكن دون أن يفقد موقفه الناقد للدور والإمبريالية الأمريكية!
وفجأة، فى انقلاب أشد، بدأ الرجل بعد حرب الخليج 1991 بعدة شهور، يدافع هذه المرة عن الحرب الأمريكية ضد العراق، زاعماً مثل ما يقوله أرباب اليسار الأوروبى أنه إذا نشب الصراع بين الإمبريالية والفاشية فينبغى الانحياز للإمبريالية. هذه الأقصوصة، فيما يفصله الدكتور إدوارد سعيد، تلخص إحدى المعضلات التى تواجه المثقف أو المفكر المعاصر الذى لا يقتصر اهتمامه بالحياة العامة على الجانب النظرى أو الأكاديمى، بل يتضمن المشاركة المباشرة أيضاً. فإلى أى مدى ينبغى للمثقف أن يمضى فى هذه المشاركة؟! وما هى الحدود والأُطُر والأهداف؟.. كيف يكفل المثقف لنفسه المساهمة ويتجنب ألم التعرض فيما بعد للخيانة وخيبة الأمل؟!. هل يستطيع المرء أن يحتفظ باستقلال فكره وأن يتجنب فى الوقت نفسه التعرض للآلام المبرحة التى تصاحب الإقرار علناً بارتداده واعترافه بذلك؟!
يحذر الدكتور سعيد من عبادة الأبطال، بل ومن فكرة البطولة ذاتها عندما تضفى على الزعماء السياسيين.. يروى المؤلف تجربته الخاصة كفلسطينى يحمل الجنسية الأمريكية، وكيف وقد شغل موقع العضو المستقل فى البرلمان الفلسطينى فى المنفى، وهو المجلس الوطنى الفلسطينى، كيف ظل يعبّر عن التضامن بل والتحدى، ويرتبط بالكفاح الذى يقاوم السياسات الإسرائيلية ويدعم حق الفلسطينيين فى حق تقرير المصير، دون أن يتخلى عن الفكرة والمبدأ انحيازاً أو عبادةً لشخص أو أشخاص!.. لم يتردد فى أن ينتمى إلى الأقلية الضئيلة عدداً حين رأى أن الصفقة التى أبرمت فى أغسطس 1993 بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية لا تعدو أن تكون استسلاماً لإسرائيل! وهو قد أخذ نفسه على معارضة عبادة أى رب سياسى، فذلك سلوك لا يليق بالمثقف أو المفكر.. وهذا لا يعنى أن على المفكر أن يظل واقفاً على حافة الماء بحيث لا يصيبه البلل، أو أن يتذرع باحترافه الثقافة للابتعاد والانفصال بسبب مهنته، وإنما عليه أن يتمسك بالهواية التى لا يحفزها مكافأة أو فائدة، بل يدفعها «الاشتباك» الملتزم بالأفكار والقيم فى الحياة العامة. إن المثل الأعلى للمثقف أو المفكر هو أن يمثل التحرر والتنوير، لا فى المطلق من المجردات أو من الأرباب النائية ذات اللون الشاحب، بل فى ارتباط دائم بحياة المجتمع، وكعنصر حىّ من عناصرها يعبّر عن حياة الفقراء والمحرومين ومن لا يمثلهم أحد أو يسمع أصواتهم أحد فى أروقة السلطة.. هنالك يغدو المثقف أو المفكر تعبيراً صادقاً حياً عن المجتمع، لا يقع فى براثن مغريات السلطة أو أسر عبادة أربابها تحت وهم البطولة والأبطال.